امتداد جديد الوقع والحضور.. متوهج بكثير من ألق وكثير من ثبات.. يجعل الورق يتنفس بين يديه بكل طمأنينة ثم ما يلبث أن يباغته بكل صلابة.. يخترق جدارات الوقت والمكان في آن، يعالج نبضًا توقف بكل حرفية وهدوء الى حين... متزن جلي متوازي متصاعد أقل ما فيه أنه لا يخشى شيئًا !!! يفتح الباب أمام تساؤولات دقيقة عن عبثية الحياة. يمسك الحرف بتمرس ثم لا ينفك يفلته كي يتحرر به الى ذاته... جريء ممتلئ بيقين أصله عمق اختمار تجربة إنسانية تجعله يعرف الاشياء ويحددها باعتبار صحيح وكامل دون مواربة أو تردد.. يأتينا اليوم بديوانه «الجديد الحداد لا يحمل تاجًا» متمكنًا مقتدرًا بكل مكنوناته يتمايل على الورق، يتنقل بحرية لا يتنصل من مفرداته متمسكا بروحية الحر الجازم في فلسفته حول هذا الكون بأكمله.. كأنه اليوم يعيد اكتشاف مكامن ذاته. نصوص أشبة بالمواجهة مع الحياة بكل أبعادها، يكسب حيناً ويربح حيناً يفرح حيناً ويتألم حيناً..تجربة نصية لعباس بيضون تحمل في طياتاتها الكثير العميق بصور متراصة تنهمر أمامك تحاكي إدراك دوران الأرض والتفاف السماء حول الله.. يبدأ النص بتوثيق الوقت حصيلة أصلها نور، بحزم ثابت فيه رجاء يخشى منه انعدام ذاك الحضور. قرار واعي يعزل فيه أي غواية، فقد أدرك امتلاء المكان بغربان لا جدوى من سماعها بعد أن توثق له أن الرسالة لن تتغير.«بقيت لي دقائق من النور/ لن تقعي أمامي/ لا أريدكِ أن تختفي اليوم أيضاً / لا أريدكِ أن تظهري شبحاً / هناك فقط دقائق / لن أعود إلى ذلك المكان / لن تغريني هذه الشجرةالتي ستمتلئ بعد قليل، بالغربان / لن أصغي بعد / الرسالة نفسها تتوقف في الوسط».اعتراف جريء، وإن كان في حيرة من أمره يرتفع يرتقي يلامس السماء بروحه يستجدي ولا يعرف كيف يصل إلى مرئية يحل فيها لغز تطير الارقام إلى الأرض هبوطا وسط الزمن العالق في سقف العالم.. لعل السؤال الأبرز أمامه عن كيفية احتمال هذا العالم للوقت. يتسائل حول وجود النبؤات وهو يدرك واعياً أن ليس لنا أن نجد النبؤات مطوحة على ضفاف نهار... ويترك لنا الباب مشرعاً للإجابة كل منا بحسه وإدراكه... «لا أعرف لغة السماء / لا أعرف متى تصل المرئيّة / متى تهبّ العصافير من المخلاة / متى تطير الأرقام إلى الأرض / هل تبقى السنوات معلقة في سقف العالم / هل نجد النبؤات مطوحة على الضفاف».«أسماء مهولة / تتكرر بمزيد من العواصف / أسرار واقفة على القواس / قواس قزح ملتهب لا يعبره أحد» صورة عبور بلا عبور تهلكه الأسماء لا اسم لها ولكن هيجان عواصفه تتربص به بل تشد به إلى اللاعبور! فأين المفر وأين السبيل؟؟«دقائق تتحطّم بدويّ / لن تكوني بتول هذه الساعة/ لن أنتظر حتى يقع الوقت منكِ» لدقائق عباس، دوي يسمعه كل من لا يسمع ويخرج به من دائرة الوهم كأنه في مواجهة أدرك بها أن لا جدوى من انتظار الوقت.. لن يترك مجالا له أن يعبث به فقد انتهى دوره. «تقاطعات مخيفة / مربعات كالأقفاص / وفقط / جدران مفخّخة / مزيد من الأشياء التي تسقط / من الآيات المغدورة / مزيد من الحقائق النائمة» يسير الآن بين دواخله، يكتشف خوفا يتربص به كمربعات تسقط مزيداً من الأشياء حوله، لعل هذا السقوط انكشافاً تأخر عنه بقصد أو بغير قصد ولكنه يترقب ويدرك المزيد من الاحتمالات المختبئة الخابتة لعلها تسقط جدران هذا الأرق المتربع كأقفاص بين تقاطيعه.«دقائق من النور في فقراتي / أشعّ حتى تطويني الظلمة / وتواريني الأرض» ولكنه لا يلبث أن يخرج من أقفاصه المربعة بخفة المتمرس، يعالج بصعود الشعاع ظلمته وكله يقين أن ما يتدفق منه نور يحثه على حسم أمره فيها بكل حزم، يدور ليرتكز على حجر أو قوس ولكنه على ثبات أنها له.«ستكونين لي / لكن علي أيّ حجر ندور / على أيّ قوس نتحد / أكون قفصكِ وتكونين لؤلؤتيترقد عامين إضافيين في حدائق المرجان / في ريح الغرب / استدعي السنين وأطعمكِ منها / اطرد الوقت عنها / وأطعمكِ منه» ما أجمل رجلاً يطعم امرأة من سنينه.. أصل الصلابة استدعاء.. كيف لرجل أن يكون على هذا القدر من العشق إذ يطرد الوقت عنها ويستجلب العمر لها!«ليس لي أن أعود إلى ذلك المكان / حيث تقاطعنا / المكان الذي نام بيننا» ثم يصل مدركا أن ليس أماكنا تفرق أو تقاطع ما بيننا !! إنها الخشية أن يودي به تكرار المكان الماضي إلى هدر وفقدان!«سنيناً حتى يستدير الجمال / حتى تقفيّ الظلمة / حتى يخلو العشّ / سنين مطرّقة لنتصلّ عليها أو نفترق / ماذا أمام النور سوى الغبار / ماذا بعد الظلمة / غير الخلاء / ماذا يتسقّط من الوحشة / ماذا يبقى من حجرة الصيف / ماذا بعد الجمال / سؤال يتحول رماداً / لا الصمت ينزف / ولا الكلام» يستجدي سنين العمر يصوبها بحس الشاعر وخبرة الرجل كي يستدير جمالها، له خلو العيش إسقاط يربط بينه وبينها يريدها هي هي، كي تصبح متوهجة تزيل بالنور كل غبار.. نعم يخشى الغبار يخشى الهلاك وهذا الصمت المتوازي للكلام فيتستاءل وسط خوف يستوعب به تحول الرماد.عباس يستوعب الوقت ولكن يريد له أثراً أكبر منه وبه، لعل ذلك خطوة أو ريح أو صمت. لعل له ولادة أخرى في مكان آخر يجعل الجرح فقط جرحا.. يرمم به اختصار ذاك الحضور الأشبه بفراق أقرب إليه من شبح.. «لو أنتِ معي لكنتِ أجمل من مختصرة / لو أنتِ معي / لكنت أقرب من شبح / لو أن ما بعدكِ أكثر من غياب / لو نفترق بحجر آخر من الألم / لو أنه مجرد جرح / لو كان الموت شفافاً كالحب / لو نترك خلفنا أكثر من الوقت / لو أن ما بعدكِ أقرب من خطوة/ لو أننا نبذر في الريح/ لو أننا نبذر في الصمت / لو أن جنينة في ما بعد الحياة / لو أمكن أن يعاد زرعنا / في واد آخر».دقائقه من نور يرتقي بها على المكان، لا يحب فيها إسقاط النور بالنور لا يريد تبديداً آخر بفعل اختفاء، كأنه من نور منسكب يشع من داخل لا حاجة معه الى أي عامل آخر للامتداد.. «فقط دقائق من نور / ولن أعود إلى ذلك المكان / دائق من نور / لا تطيق نوراً يسقط عليها / لا تأتيها العتمة لكن تتبدد / في الضوء والخفاء / ليست أسراراً / لكن رسائل للهواء / ليست شموعاً لكن أعداداً / تخفي في الشمس».يتراءى له الوصول يرى بين بينه أن العالم أشبه بأكذوبة توصلنا دوما إلى النهايات فلا عودة عنده للبداية لسنا الشمس ولن نزرع في الارض من جديد قد استنفذنا هباء... «متى تصل المرئية / هل نترك العالم قصيدة خلفنا / ماذا لو كانت أكذوبة / ماذا لو كانت هباءً / تقاطعات مخيفة / لكن المربع الذي يسقط منها / لن يرجع الى البداية / لن يعاد زرعه / ولن يبقى أحجية يمكن أن يكون فقط الكلمة – الشمس / أو وثن العالم».من لها أن يسميها الوقت محظوظة! تتفرع من جذره يركن اليها ذاكرته بل حياته يترك لها قصائده من صنعه متأملا أن يستدير العالم مقتفيا نقاط الوجود كي تكون له إعادة زرع تعيد نصب الكلمات إلى قوس قزح.. إنه استجداء ولادة... «مربع الوجود / ثم تساؤولات متسلسلة / ثم حطام / ثم ذاكرة / ثم قوس قزح / له الامل / ثم اعادة الزرع / هي الولادة».«أسميتك الوقت / أودع عندكِ ما أنساه / ما كان يعد بالذكريات / ما صار وقتاً فحسب / أودع فيكِ ما سميته حياتي / بدون أن أعرف من سلّمنيها / ومن أتمنني عليها / أترك لك القصائد التي تصلك بيضاء تماماً / صنعتها كما يصنعون السراب والأشباح / متأملاً ان تبقى وثناً / ماذا بعد أن يستدير الجمال / بعد أن يقفّي العالم / ماذا يترك اسماً للصفر / هل يبقى المربّع في النقطة الباقية / من الوجود / هل يظل فوق الحطام / يتذكّر ما لم يعشه أحد / ربما تعود الكلمة الى قوس قزح / ربما يعاد زرع الكائن هناك»يشده الألم يطبق عليه يجعله يلتف حول حوله كي يسترد رأسه المستعار ولو بعد حين ولو كان إلى الغد.. كأن بهذا الألم الدامغ تدفق متأتي دون حاجة إلى اسم أو بطاقة الكل فيه سيان (فتجربة الالم مرارة لا تكترث بالصدف)! «الألم بأرخص طريقة / تنظف أسناناً غير موجودة / لكن لا تعرف أنك غيرك / أنك هذا المار بالصدفة / ولا تحتاج طبعاً الى بطاقة أو اسم / يمكن أن تختار اسماً لهذه الليلة / وترد رأسك المعار غداً».يقوى على كل ما به بكل ما به ها هو يفتح جرحه الدفين لا صنع فيه ولا اختزال عبر تجربة عيش حقيقي ينزف فيها بضراوة مدركا خيبة لا عودة منها تتجلى أمامه حتى تفسد عظامه «حتى اطفالنا يفسدون ولا يكترثون بنا يستعيروننا فقط دون إكتراث حتى لاسماؤنا»، «لقد صنعنا أطفالاً لن يكترثوا بنا / ولن يحملوا بالطبع أسماءنا / سيستعيروننا فقط / قبل أن يفسدوا عظامنا».لعل بكاء يمحي هذا الكم المتكدس من الألم... فالألم لا يصنع يأتيك رخيصاً على الطرقات هبة من الحياة على أشكال مختلفة معروضة على شاشات ومقولبة بقوارير! «ابكِ، يوجد ألم حقيقي / لا يُصنّع الألم لأنه نظيف / ولا آلة لصناعته / الألم بأرخص طريقة / معروض على الطرقات / لكن أيضاً في المتاحف / ستنتقل من شاشة الى شاشة / وتتلقى الحياة في علب وتقارير».بعمق فلسفي يصل بنا إلى صفحة جديدة من السأم, يجد أننا أحرار فقط حين ننام. لا قدرة لنا على لجم الوعي فيه ولا على اجتيازه, ذات تطوف بنا منا إلينا تعبر من ساق نحو قلب ثم فم لتخرج منا ما تخرج كأن هذا الحلم أبقى لنا وأجدر لنا لعلنا نستكين به. «نحن أحرار فقط حين ننام / للحب ورقة / للسأم صفحة خاصة / سيفكر ساقك / ويتكلم عوضك / ركبتك محطة وكذلك قلبك / وأنت تسافر في نفسك / ستمضي شهراً في أذنك / وتقيم في فمكوبالرسائل تطوف العالم / ستكوناً أحياناً جرذاً / وقد تحلم بك امرأة / هذا يحتاج الى سحر».هذا الرعد وحده حقيقي (بكل طمأنينة!!!) يصدر من جوفه مختلفاً وحادًا يتمدد محدثاً حقيقية لا مجاز فيها ولا تأوويل! «لكن الرعد وحده حقيقي / الأشجار يمكن صناعتها بالقلمالعشب قد يطلع من الأغاني / الألم حقيقي / وستتعذب، / حين يصل وجهك من المختبر/ أو تتلقى حياتك في رسال».
مشاركة :