إيران في قبضة ديمقراطية الأصوليين - محمد بن علي المحمود

  • 2/19/2015
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

لا ينتخب الناس مرشحيهم حقيقة في إيران، وإنما ينتخبون – فقط - من يُرشحه لهم رجال الدين. الناس لا ينتخبون، وإنما يُرجّحون بين خيارات رجال الدين المسبقة. ف(الرئيس المنتخب!) لا بد أن يوافق عليه مجلس صيانة الدستور (الذي يهيمن عليه الولي الفقيه) قبل انتخابه، ولا بد أن يصادق الولي الفقيه عليه صراحة بعد انتخابه؛ ليصبح رئيساً شرعياً من الواضح أن الانتخابات الدورية في إيران: انتخابات مجلس الشورى، وانتخابات مجلس الخبراء، والانتخابات الرئاسية..إلخ، هي أحد مظاهر إضفاء الشرعية الشعبية على النظام، خاصة وأن تأسيس هذه المجالس أتى بعد ثورة تحررية شاملة شارك فيها الجميع، من إسلاميين وشيوعيين وليبراليين، بحيث لم يعد من الممكن مصادمة الشعب الثائر بصريح الاستبداد، الاستبداد الديني الذي إن قبل به بعض غلاة المُتدينين، فلن يقبل به معظم الثائرين. للخروج من هذا المأزق، كان لا بد من تمظهر ديمقراطي، يؤدي دورا مُهمّا في المشروعية الخارجية، كما يؤدي دوراً مهماً في تأطير واحتواء الخلافات التي ستظهر داخل أروقة النظام بين رجال الدين المتنفذين. لهذا طفت على السطح السياسي الإيراني هذه المجالس المنتخبة، وشبه المنتخبة، التي لا مثيل لها في أي مكان في العالم؛ لتكون المناصب فيها جزءاً من المنح السياسية للترضية داخل مكونات النظام نفسه، ولتكون منافذ للطامحين في الترقي من رجالات النظام؛ حتى لا يقودهم اليأس إلى الخروج، والتشكيك في مشروعية النظام من الأساس. إذاً، هذه المجالس المنتخبة، وشبه المنتخبة، تُوحي بديمقراطية ما، تجعل بعض المتعاطفين مع هذا النموذج، أو الجاهلين بحقيقته، ينفون عنه صفة الاستبدادية، وربما رشحوه ليكون النموذج الأمثل للديمقراطية الإسلاميوية المتوخاة، في مقابل النموذج الغربي الذي يحظى بهجائية – حاسدة أو حاقدة !- في هذا الشرق الأوسط المنكوب. قد ينخدع كثيرون بهذه المجالس، وبهذه الانتخابات الدورية التي تتزيا بالزي الديمقراطي. غير أن قراءة عابرة للأنظمة التي تحكم سير هذه المجالس، وبالتالي تحكم نتائجها، تؤكد أن ثمة طغيانية استبدادية تقودها الانغلاقية الدينية المحافظة، وتنتظم خيوطها المؤسساتية في يد الولي الفقيه الذي يهيمن – بحكم موقعه المنصوص عليه في الدستور – على تفاصيل المشهد السياسي الإيراني، ومن ثم على تفاصيل القرار الإيراني. لنبدأ من أعلى الهرم السياسي، من أعلى منصب سياسي في إيران، من منصب الولي الفقيه/ القائد (مرشد الثورة)، الذي يمتلك صلاحيات هائلة بنص الدستور، فهو القائد الأعلى للقوات المسلحة؛ فيعين ويعزل رئيس أركان القيادة المشتركة وكبار الضباط، وهو الذي يُعيّن أو يُقيل القائد العام لحرس الثورة (الباسدران) الذي وصلت أعداده إلى ثمانية أضعاف الجيش، وأيضاً، هو الذي يُعيّن ويُقيل قيادة قوى الأمن الداخلي، ورئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون، وهو الذي يعين رئيس السلطة القضائية، وهو الذي يحل الخلاف بين السلطات الثلاث، وهو – وحده - الذي من صلاحيته إعلان الحرب وإعلان السلام، وهو الذي يُصادق على تنصيب رئيس الجمهورية المنتخب (وبدون مصادقته لا قيمة لفوزه الانتخابي)، وبالتالي هو الذي يتحّكم حتى في شخصيات مجلس الأمن القومي (المجلس الأعلى للدفاع)، وهو الذي يحدد السياسات العامة للدولة.. إلخ الصلاحيات التي تجعله صاحب الكلمة الأخيرة في كل قرار، بل وكثيراً ما تكون الكلمة الأخيرة هي الكلمة الأولى! إن هذه السلطات المفتوحة الصلاحية، بإمكانها – كما يقول غسان طعان – إن تحوّل الفقيه إلى دكتاتور لم يحلم به الشاه (التغرُّب في الثقافة الإيرانية الحديثة، ص29). والأخطر، أنه مع كل هذه الصلاحيات لا يتحمّل أية مسؤولية؛ لأن نفوذه يسري من خلال المجالس التي تتحمل لوحدها نتائج ما تقرره بإرادته، فهي كالدرع الواقي لمنصب الولي الفقيه من أن تصل إليه سهام المساءلة، بل كيف تصل إليه، وأي مساءلة – ولو كانت افتراضية – لا تمر إلا من خلال المجالس التي يهيمن عليها بشكل مباشر أو غير مباشر. فالولي الفقيه في النظام – كما اتضح - يمتلك حصانة مضاعفة، كما يمتلك نفوذاً مضاعفاً، إذ يتحكم في المجالس/ المؤسسات المتنخبة بشكل غير مباشر، واللامنتخبة بشكل مباشر، فهو الحاكم الفعلي في نهاية المطاف. ليس هذا فحسب، بل إن الولي الفقيه يمتلك حصانة من خارج الأطر النظامية للجمهورية/ الدولة؛ بوصفه رجل دين وصل مرتبة المرجعية. أي هو يمتلك – بالإضافة إلى الحصانة التي تمنحها له الأنظمة الدستورية - حصانة أدبية/ معنوية تُمنح له بموجب المرتبة الدينية؛ فلا يمكن – أدبياً - أن يُنتقد؛ لأن " سلوك المرجع كما يعتقد الشيعة صحيح دائماً، ويتخذ الصورة المطلقة لأنه نائب الإمام. ومن كان في مثل هذا المقام المقدس لا تكون مواقفه وتصرفاته معيبة وخاطئة" (الاستبداد الرمزي، شاكر شاهين ص51). هذه بعض ملامح هيمنة/ استبدادية الولي الفقيه، وهي ليست إلا واجهة لهيمنة/ استبدادية رجال الدين. إن "تجربة الدمج بين سلطة "ولاية الفقيه" وبين سلطة الشعب "حق التعيين وحق الانتخاب" هي تجربة غير مسبوقة"(الجمهورية الصعبة، طلال عتريسي،20). ولأنها غير مسبوقة؛ فقد تحرر المُشرِّع الأصولي من أية قيود مسبقة، حتى لو كانت أدبية. بمعنى أنه وجد الطريق أمامه مفتوحاً ليضع الإرادة الشعبية (= حق الانتخاب) في حدود إرادة الفقيه المعصومة التي تهيمن على كل الإرادات بوصفها مجرد رؤى بشرية قابلة للخطأ، حتى ولو اطردت على ما يشبه الإجماع. صحيح أن الولي الفقيه منتخب، ولكن لا يترشح إلا رجل دين، ولا يشترك في انتخابه إلا رجال الدين المجتهدون المجازون من مجلس صيانة الدستور، ذلك المجلس الذي يُعيّن الولي الفقيه رئيسه ونصف أعضائه، ويرشح رئيس السطة القضائية (الذي يعينه الولي الفقيه) النصف الآخر. فرجال الدين حاضرون في كل مفاصل المراكز الحساسة. فالأمور تبدأ من عندهم، وتنتهي إليهم. ولو نظرنا إلى المجالس الأخرى المنوط بها صنع القرار؛ لاتضح لنا هيمنة الولي الفقيه عليها بصورة مطلقة، ومن ورائه رجال الدين؛ رغم تمتعها بالإجرائية الانتخابية في كثير من الأحيان. أهم هذه المجالس على الاطلاق هو: (مجلس الخبراء) المنوط به انتخاب القائد (الشخصية المتحكمة في كل شيء)، ثم الإشراف على عمله، وعزله إذا حدث ما ينتقص من أهليته لأي سبب كان. المهم – وهنا تتجلى هيمنة رجال الدين الصارخة على أهم مؤسسة قيادية - أن أعضاء هذا المجلس (وعددهم 86) هم من علماء الدين المجتهدين. وهؤلاء يجري انتخابهم من الشعب مباشرة. فالشعب ينتخبهم، ولكنه ليس حراً في انتخاب أي أحد، بل لا بد أن يكون المرشح من رجال الدين، بل ومن الراسخين في المنظومة الدينية التقليدية، فلا مجال هنا لرجال الدين الخارجين على هذا النسق التقليدي (يقوم مجلس صيانة الدستور الذي يهيمن عليه الولي الفقيه بفرزهم)؛ لأن التديّن، والجدارة الأخلاقية، والاجتهاد والاستنباط، بالإضافة إلى الموقف السياسي الذي يتضمن عدم وجود سوابق معارضة لنظام الجمهورية.. إلخ الشروط التي تفرز أي صوت معارض فكرياً أو سياسياً لسلطة الولي الفقيه بصلاحياته المطلقة. ثاني هذه المجالس من حيث الأهمية: (مجلس صيانة الدستور)، الذي يتكون من (12 عضواً، 6 فقهاء، و6 من المتخصصين في مختلف فروع القانون). ومهمة هذا المجلس التأكد من مطابقة ما يصدر عن مجلس الشورى من قرارات وأنظمة مع الأحكام الإسلامية ومع مواد الدستور. هذا المجلس هو أحد أعمدة الاستبداد؛ إذ يهيمن عليه الولي الفقيه/ المرشد؛ لأنه هو الذي يختار ستة من أعضائه (= الفقهاء)، بينما يرشح رئيس السلطة القضائية (الذي يعينه المرشد) الأعضاء القانونيين، ويصادق على هذا الترشيح مجلس الشورى. فنصف المجلس يعينه المرشد، والنصف الآخر، يرشحه الرجل الذي عينه المرشد!. وبالتالي، فمن المستحيل أن يدخل أحد في هذا المجلس دون أن يوافق المرشد عليه. وما مصادقة مجلس الشورى على النصف الثاني من أعضاء مجلس صيانة الدستور إلا التفافة استبدادية؛ لأن المرشحين لمجلس الشورى لا بد أن يوافق عليهم هذا المجلس أيضاً (إذ هناك ستة أعضاء يعينهم المرشد، فضلاً عن رجال رئيس السلطة القضائية) فمن رفض هذا المجلس ترشحه للشورى لن يترشح، أي إن أعضاء الشورى في النهاية، ليسوا إلا أولئك الذين رضي عنهم رجال الدين!. إن خطورة هذا المجلس: مجلس صيانة الدستور، تكمن في أن من مهامه الإشراف على كل الانتخابات التي تجري في إيران، وعلى الاستفتاء العام. فكل مرشح، لأي موقع انتخابي، لا بد أن يوافق عليه هذه المجلس. وقد ألغى هذا المجلس ترشيح مئات الإصلاحيين لانتخابات مجلس الشورى ولانتخابات الرئاسة. فمن بين (270) مرشحاً للرئاسة عام 2005م وافق المجلس على (4) فقط. وهنا يفرز رجال الدين المرشحين، ويطرحون أمام الناس شخصيات محدودة، لا تهدد نفوذهم حقيقة، شخصيات لا تخرج عن عباءة الولي الفقيه. إنها وَهْمُ انتخابات، إذ لا ينتخب الناس مرشحيهم حقيقة في إيران، وإنما ينتخبون – فقط - من يُرشحه لهم رجال الدين. الناس لا ينتخبون، وإنما يُرجّحون بين خيارات رجال الدين المسبقة. ف(الرئيس المنتخب!) لا بد أن يوافق عليه مجلس صيانة الدستور (الذي يهيمن عليه الولي الفقيه) قبل انتخابه، ولا بد أن يصادق الولي الفقيه عليه صراحة بعد انتخابه؛ ليصبح رئيساً شرعياً. وكما يقول أحدهم مازحاً: إن خيارات الناخبين في إيران هي كأن يدخل الإنسان مطعماً، وتكون الوجبات المطروحة له هي: إما وجبة رز بفلفل، أو وجبة رز بكمون، أو وجبة رز بزعفران، ولكنها في النهاية ليست إلا وجبة رز، ولا خيار آخر غير وجبة الرز. كذلك الأمر في ديمقراطية رجال الدين، أنت تختار بين عدد محدود من رجال الدين المتزمتين، المؤمنين بولاية الفقيه، ولا خيار لك وراء ذلك. وحتى تتضح تعقيدات الطبخة الاستبدادية ذات التمظهر الديمقراطي أكثر فأكثر؛ لا بد من ملاحظة أن المجلس الثالث: مجلس الشورى/ البرلمان ليس أكثر من ديكور انتخابي في نهاية الأمر. فالشعب ينتخب أعضاء الشورى (= البرلمان)، ولكن مجلس صيانة الدستور هو أداة استبدادية لفرزهم كأشخاص أولا، ولفرز قراراتهم ثانياً. ولهذا تنبّه الباحث/ طلال عتريسي إلى أمر مهم، وهو أن الإصلاحيين لن يستطيعوا تغيير شيء حتى ولو أصبحوا أغلبية في البرلمان الإيراني؛ لأن قرارات البرلمان لا قيمة لها قبل مرورها على مجلس صيانة الدستور، وموافقته عليها (أهل السنة في إيران ص27). وهكذا يتضح كيف تستكمل حلقة الاستبداد دورتها المراوغة على أكثر من مسار؛ لتخنق كل أنفاس الحرية وهي لا تزال غَيْباً في رحم الزمان. المجلس الرابع: مجلس تشخيص مصلحة النظام. وأعضاؤه يُعينهم الولي الفقيه بنفسه. وصلاحيات هذا المجلس تحكّمية/ حكمية؛ لكونه المجلس المنوط به النظر في الخلاف الذي ينشأ بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور. فهو مجلس فوق المجلسين من حيث طبيعة مهامه. ومن وراء ذلك؛ يبقى الولي الفقيه مهيمناً هيمنة مطلقة عليهما (= مجلس الشورى، ومجلس صيانة الدستور) من خلال هذا المجلس (= مجلس تشخيص مصلحة النظام) الذي ليس رجاله إلا رجال الولي الفقيه/ القائد/ المرشد! وإذا كان القضاء في أي مكان في العالم هو آخر معاقل الحرية، فإن السلطة القضائية في إيران لها دور محوري في ترسيخ الاستبداد الديني، خاصة وأن رئيسها يُعينه الولي الفقيه/ المرشد، ما يعني أن له السيطرة التامة عليها، ومن خلالها على بقية السلطات. ولهذا، لا عجب أن أصبحت هذه السلطة القضائية أداة للمحافظين الانغلاقيين الاستبداديين في مواجهة الحركات الإصلاحية على اختلافها. فبأحكام قضائية صدرت عن هذه السلطة المُسيّسة، مُنعت الأغلبية الساحقة من الصحف الإصلاحية، وأوقفت السلطاتُ رؤساءَ التحرير فيها، بل بواسطتها حاصر الاتجاه المحافظ كل التوجهات الإصلاحية، مع اختلاف في طبيعة المواجهة وفي درحة القمع. طبعاً، هناك مجالس ومؤسسات أخرى مؤثرة، ولكنها تتبع – بشكل أو بآخر – هذه المجالس والمؤسسات التي أشرنا إليها، والتي لها الحسم في صنع القرار من حيث الشكلانية الديمقراطية؛ وإلا فالقرار حقيقة بيد رجال الدين من خلال المرشد/ الولي الفقيه. وإذا كانت المؤسسات المدنية (المدنية مقابل العسكرية، وليس مقابل الدينية) يهيمن عليها الاتجاه الديني المحافظ على هذا النحو الذي أشرنا إليه، فإن المؤسسات العسكرية (الجيش، الحرس الثوري) خاضعة لهذه الهيمنة، خاصة الحرس الثوري، المشرف بصورة مباشرة على قوات (الباسيج)، تلك القوات التي لها دور كبير في الدعاية والحشد والتجييش، بل وإرعاب الخصوم من التيارات المعارضة من داخل النظام، فضلاً عن التيارات المعارضة من خارجه. فالعسكرية هنا لا تصنع جنوداً مؤهلين للقتال في الجبهات الحدودية المحتملة فحسب، وإنما تصنع جنوداً مؤدلجين، جاهزين للاستخدام (السلمي) في العراك السياسي الداخلي حال المواجهات الآمنة/ السلمية، وجاهزين للمواجهات الدامية مع الجماهير؛ إن بدا من هذه الجماهير ما يمكن أن يهدد هوية النظام.

مشاركة :