تتمسك أنقرة بأولويّاتها في سوريا حول تأمين حدودها الجنوبية من خطر تعاظم قوة حزب العمال الكردستاني الذي تصنّفه “إرهابيا”؛ حيث جدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خطابه أمام أعضاء غرفة التجارة الأميركية والمجلس التركي الأميركي بأن “تركيا تملك كل الوسائل اللازمة لإقامة المنطقة الآمنة بنفسها، ما دام حلفاؤها سيقدمون لها الدعم”، وأنه متحمّس لإنشاء شقق سكنية للاجئين في المنطقة الآمنة لضمان عودة أكثر من 3 ملايين سوري مهجّر في تركيا. لكن، لا يزال الغموض يلفّ الاستراتيجية الأميركية حول ملفّ شرق الفرات ومنبج، عدا عن تثبيت نواياها بالانسحاب وتحديد موعده في نهاية أبريل المقبل، حسب ما ورد في صحيفة وول ستريت الأميركية، رغم أن الانسحاب بات مرهونا بإنهاء داعش، بعد أن صوّت الكونغرس منذ أيام بأغلبية ساحقة، وبقيادة الجمهوريين، على قرار يحذر الرئيس من الانسحاب، والذي ردّ على القرار بإعلان أن داعش سينتهي في سوريا خلال أسبوع. هذا الجدل في واشنطن حول الانسحاب من سوريا، وحول سياسات ترامب عامة، يظهر أن الموقف الأميركي نفسه غير محسوم حول ترتيبات الوضع في سوريا؛ حيث لا يزال الملف عرضة للمساومات التي أطلقها ترامب منذ إعلان نيّته الانسحاب من سوريا في 19 من ديسمبر من العام الماضي. تركيا غير مطمئنة من الموقف الأميركي، رغم التنسيق بين الطرفين، وتشكيل “قوّة مهام مشتركة” بين أنقرة وواشنطن لتنسيق الانسحاب الأميركي. لم تقدم واشنطن لأنقرة سوى تطمينات “كلاميّة” “بضرورة الاستجابة لمخاوف الأتراك الأمنية حول الحدود”، لكن مع تطمينات مماثلة لوحدات حماية الشعب الكردية، بأن واشنطن لن تتخلى عن حمايتها. بالتوازي مع كلّ ذلك تنسّق تركيا مع الحليف الروسي، حول كيفية ملء الفراغ بعد الانسحاب الأميركي من شرق الفرات، إضافة إلى تنسيقٍ حول ملفّ منبج، وملفّ إدلب الذي بلغ درجة عالية من التنسيق بعد اتفاق المنطقة العازلة في 17 سبتمبر الماضي. تبحث أنقرة عن تنسيق عال مع موسكو شرق الفرات، يشكّل غطاء يُقوّي موقفها في مفاوضاتها مع واشنطن حول ملف الانسحاب والمنطقة الأمنية؛ لكن موسكو بدورها تتلاعب بالرغبة التركية في تأمين حدودها، وتطرح عودة النظام، وسريان اتفاق أضنة بينه وبين الأتراك لعام 1987. عودة النظام لا تطمئن تركيا، ليس بسبب موقفها الداعم للمعارضة، ولكن بسبب الهشاشة التي وصل إليها، واعتماده على ميليشيات طائفية، وقوة علاقته مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، كما أنّ التوجه الدولي العام، والأميركي خاصة، هو باتجاه إدانته اقتصاديا، وبالتالي إضعافه أكثر. روسيا، التي سيّرت دوريات مشتركة مع قوات سوريا الديمقراطية شمال منبج، تصرّ على عودة النظام إليها، مدفوعة بأن الأكراد فيها يشكلون أقلية، وقيادات وحدات حماية الشعب التي تسيطر عليها أتت من كوباني والقامشلي، أما الغالبية العربية فهي قبائل عُرفت بولائها للنظام، ما يجعل موسكو طامحة لضمّها إلى فيلقها الخامس، لتحسين موضعها في السيطرة على جيش النظام ضد التوغل الإيراني. وتركيا غير راغبة بعودة النظام إلى منبج، رغم أنه سيترافق مع طرد قوات سوريا الديمقراطية منها، لأنه سيقوي موقف روسيا الضاغط على تركيا في ملف المنطقة الأمنية. ملفّ شرقي الفرات أكثر تعقيدا من منبج، بسبب التركيبة الديموغرافية للمنطقة، حيث تتواجد نسبة لا بأس بها من الأكراد المتخوفين من سيطرة فصائل عربية ذات طبيعة إسلامية تدين بالولاء لتركيا، كما هو الحال في عفرين وجرابلس والباب؛ أما المقاتلون العرب، بمن فيهم المشاركون في قوات سوريا الديمقراطية، وكذلك المهاجرون إلى مناطق ريف حلب، فلا يمانعون في سيطرة تركيا، بالضد من ممارسات وحدات حماية الشعب ضد عرب المنطقة. ضمن هذه التعقيدات وتضارب الأجندات، يتجدّد عرض رئيس تيار الغد السوري المعارض أحمد الجربا لخطة ملء الفراغ، يطرحها على مسؤولين أميركيين وأتراك ورئيس إقليم كردستان العراق السابق مسعود البارزاني، بنشر قوة عسكرية قوامها 10 آلاف مقاتل عربي كردي، في المنطقة الأمنية المزمع إنشاؤها على طول الحدود الشمالية مع تركيا، لفصلها عن وحدات حماية الشعب داخل الأراضي السورية. 6 آلاف مقاتل من قوات “روج” يشاركون في هذه القوة العسكرية، التي تشُكّلت في إقليم كردستان العراق في مارس 2012، من أكراد منشقين عن الجيش النظامي وهاربين ومتطوعين، لم يشاركوا في المعارك السورية، وتم تدريبهم من قبل ضبّاط البيشمركة القدامى على حمل السلاح الخفيف والمتوسط، وتم إعدادهم بتوجيه من البارزاني لخدمة المصالح الكردية في حال حدوث فراغ أمني. وباقي القوة العسكرية هي من قوات النخبة العربية التابعة للجربا. ويراهن الأخير على قبول تركيا هذا العرض، كون قوات “روج” تتبع للبارزاني من جهة، والذي يتعاون مع أنقرة حول ملاحقة عناصر تنظيم حزب العمال الكردستاني في العراق، وتتبع من جهة أخرى للمجلس الوطني الكردي، الذي يشكّل مظلة سياسية لهذه القوات، وتدعمه تركيا ضمن دعمها لتشكيلات المعارضة السورية. خطة أحمد الجربا، رغم واقعيتها، تواجه تحديات؛ فتركيا مازالت تفضّل انتزاع المنطقة الآمنة بالقوة، وتحشد قواتها لهذا الغرض، وروسيا تريد عودة النظام واتفاقية أضنة، وقوات سوريا الديمقراطية تريد أن تعمل قوات “روج” الكردية والنخبة العربية تحت إمرتها، فيما تتخبط واشنطن في نواياها الغامضة حول ملف المنطقة برمّتها، إضافة إلى تحدي كيفية توزيع هذه القوات على الأرض بالشكل الذي يراعي الحساسيات العربية – الكردية، كشرط أساسي لتحقيق الاستقرار.
مشاركة :