تتسارع يوما بعد يوم ابتكارات واستخدامات الطباعة ثلاثية الأبعاد بوتيرة يمكن أن تحدث انقلابات غير مسبوقة، من جميع الأنشطة الصناعية إلى البناء والإنشاءات وصولا إلى قطاعات الطب والفضاء، وما ينجم عنها من ارتدادات في علاقات العمل والإنتاج وطبيعة حياة البشر. يمكننا أن نتخيّل تأثير ذلك على الدورة الاقتصادية حيث لن تحتاج المصانع ولا المستهلكون في منازلهم إلى طلب قطع الغيار من الشركات الأصلية وانتظار وصولها من مناطق وبلدان بعيدة. وقد تتحول الشركات التقليدية والشركات الجديدة في مستقبل أبعد حين تنتشر الطابعات في أنحاء العالم من تصنيع بعض المعدات إلى بيع الخارطة ثلاثية الأبعاد إلى الزبائن لطباعتها في منازلهم ومكاتبهم. وليست هذه التكنولوجيا وليدة الأمس القريب، فقد بدأت خطواتها الأولى منذ 4 عقود، لكن وتيرة التطور الجامح تسارعت مؤخرا وبدأت تزحف إلى جميع القطاعات تقريبا. وأصبحت متاحة في الأسواق بأسعار تتجه للانخفاض يوما بعد يوم مع اتساع نطاق الإنتاج والتوزيع. وتنشغل الكثير من مختبرات العالم بتطوير الطابعات وخاصة البحث في تطوير المواد التي تستخدم في الطباعة. ويرجح الخبراء أن تشهد قفزات ابتكارية كبيرة تضاعف دورها بشكل كبير في السنوات المقبلة. ويجمع الخبراء على أن الطباعة ثلاثية الأبعاد تقترب من إطلاق ثورة صناعية غير مسبوقة بتفجر مستويات الإنتاج الكثيف والفوري من المنتجات العامة والمفصلة حسب الطلب ورغبات الزبائن، ما يؤدي إلى تقليل المخزون ورفع كفاءة سلاسل التوريد وما يتبعه من تسريع وتيرة الابتكارات. ويمكن أن تكون لها انعكاسات هائلة على سوق العمل تفوق تأثير انتشار الأتمتة والروبوتات، لأن الشركات لن تحتاج إلى الأيدي العاملة، حين تكتفي بابتكار نموذج واحد واستنساخه بالأعداد التي يحتاجها السوق. كما ستشطب معظم وظائف قطاعات النقل والتخزين والتوزيع الكبيرة، حين تبدأ الشركات بطباعة منتجاتها قرب الأسواق فورا وحسب الطلب دون الحاجة إلى إنتاجها وتخزينها، ليمتد التأثير إلى إلغاء دور المتاجر. ولم يكن أمام معظم إن لم نقل جميع الشركات العالمية الكبرى سوى التسابق للاستثمار في هذه التكنولوجيا، التي لا يمكن تفادي زحفها الحتمي، لأن التأخر في احتضانها قد يؤدي إلى انهيار تلك الشركات خلال المنعطفات المتسارعة لهذه التكنولوجيا. على الجانب الآخر سيؤدي تطور الطابعات وزوال الكثير من التكاليف التشغيلية إلى تراجع الأسعار بشكل كبير وتوفير المزيد من البضائع والسلع ومعالجة أزمات الإسكان الكثيرة في العالم، حيث يمكن إنشاء أحياء ومدن جديدة بتكاليف منخفضة وخلال وقت قصير.وتتيح ابتكارات الطباعة ثلاثية الأبعاد فرصا هائلة للتخصيص وتعزيز كفاءة جميع المؤسسات من خلال تزويدها بالقدرة على الاستفادة من الموارد بشكل كامل من خلال أنشطة وعمليات التطوير والتحسين، الأمر الذي يزيد المنافسة على تقديم الأفضل للمستهلكين. وسيكون ذلك التطور السريع مستداما ويمكن التحكم به بدرجة أكبر من السابق، إضافة إلى التأثير الإيجابي الواسع على البيئة من خلال شطب الكثير من نشاطات التصنيع والنقل والخدمات اللوجستية. وسيقلص الكثير من الرحلات بنشاط الشركات وحركة الزبائن للذهاب إلى المتاجر حين تنتشر الطابعات المنزلية ثلاثية الأبعاد. وستتمكن الشركات من مطابقة العرض والطلب بكفاءة عالية، بعد أن كانت من أكبر العقبات، إضافة إلى تقليص إنتاج النفايات المضرّة بالبيئة الناتجة عن التصنيع والنقل، الأمر الذي يخفّض الانبعاثات بدرجة كبيرة وانتفاء الحاجة إلى الكثير من أدوات الإنتاج وما قبل الإنتاج. وتشير التقديرات إلى أن الطباعة ثلاثية الأبعاد يمكن أن تؤدي إلى خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 25 بالمئة من مستوياتها الحالية بحلول عام 2025. ولا يكاد يمر أسبوع دون مفاجآت نوعية كبيرة في تكنولوجيا الطباعة ثلاثية الأبعاد، تحتل عناوين الأخبار وتشير إلى تحولات كبيرة في المستقبل القريب. وأبرز ما حدث هذا الأسبوع هو ابتكار توصل إليه باحثون أميركيون يسمح باستخدام الضوء لنقل الطباعة ثلاثية الأبعاد إلى مدى جديد من الدقة العالية، وخبر آخر عن إنشاء أول مصنع لمفاصل الركبة في دبي بتلك التقنية تستجيب لمقاييس سكان المنطقة. وأكد فريق من الباحثين في الولايات المتحدة ابتكار تقنية جديدة تسمح باستخدام الضوء في تحويل السوائل إلى أجسام صلبة ذات طبيعة معقدة في تصميمها بواسطة الطباعة ثلاثية الأبعاد في غضون دقائق. وأطلقوا على الطابعة المجسمة الجديدة اسم “ربليكيتور” وتعني الجهاز الذي يخلق نسخة مطابقة في إشارة إلى جهاز ظهر في سلسلة أفلام الخيال العلمي “ستار تريك” وكان بمقدوره طباعة أي جسم من العدم، بناء على طلب المستخدم. وأكدوا أن الطابعة ستنقل ما تقدمه الطباعة ثلاثية الأبعاد إلى مستويات جديدة الدقة، حيث تصنع أجساما أكثر نعومة في ملمسها وأكثر تعقيدا في تصميمها مقارنة بالنتائج التي تحققها الطابعات المستخدمة في الوقت الحالي.ونقل الموقع الإلكتروني “تيك إكسبلور” عن الباحث هايدن تايلور، أستاذ الهندسة الميكانيكية في جامعة كاليفورنيا الأميركية تأكيده أن الطابعة الجديدة ستحدث انقلابا هائلا في عمليات التصميم. وتعتمد التقنية الجديدة على استخدام مادة سائلة ذات طبيعة لزجة تتفاعل مع درجات معينة من الضوء بحيث تتحول إلى جسم صلب. ومن الممكن عن طريق توجيه أنماط معينة من الضوء على المادة السائلة التي يتم وضعها على أسطوانة دوارة تصنيع الأشكال المرغوب فيها بشكل فوري. وفي الإمارات تم إنشاء أول مصنع لمفاصل الركبة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد في مدينة دبي، وهو الأول من نوعه في العالم لإنتاج مفاصل تستجيب للمقاييس البيولوجية لسكان منطقة الشرق الأوسط والدول الآسيوية. وأشار مهيمن عبدالغني، الرئيس التنفيذي للمستشفى، إلى أن تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد تفيد في إنتاج مفصل يناسب مقاييس كل مريض، لتفادي المشاكل الناجمة عن زرع المفاصل بالطريقة التقليدية غير المصنعة خصيصا لكل مريض على حدة. ويمكن أن يحدث ذلك نقلة نوعية للأوضاع الصحية تمتد إلى جميع المفاصل والعظام، خاصة أن المشكلة شائعة إلى حد كبير بين كبار السن في جميع أنحاء العالم. ويهدف المركز إلى تقديم أحدث التقنيات في مجال تقويم المفاصل ويستخدم أيضا الذكاء الاصطناعي وأجهزة الروبوت الجراحي لعلاج حالات مرضى الخشونة المتقدمة في المفاصل. وكانت شركة وينسون قد أنجزت طباعة 10 منازل كاملة الحجم في شرق الصين باستخدام طابعة ثلاثية الأبعاد. واستغرقت الطباعة يوما واحدا فقط، باستخدام الإسمنت سريع التجفيف، لكنها لم تعلن عن تفاصيل أسرار التكنولوجيا. وتمتد الثورة التي تعد بها الطباعة المجسمة إلى آفاق لا حصر لها، حتى أن وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) أرسلت طابعة إلى محطة الفضاء الدولية، وتمكن رواد الفضاء من طباعة أحد مكونات المحطة في الفضاء في خطوة نحو الاكتفاء الذاتي في تصنيع قطع الغيار التالفة. وتقوم الطابعات بنفث طبقات رقيقة فوق بعضها بدقة تتراوح بين 400 ميكرون في الطابعات البلاستيكية و25 ميكرون لطابعات الليزر أو الطابعات الضوئية للحصول على مجسمات مماثلة للمجسم الذي تم وضعه على جهاز الكمبيوتر، أو الذي يتم مسحه بواسطة ناسخ ضوئي ثلاثي الأبعاد. وتمتد آفاق هذه الثورة الصناعية من طباعة المعدات المنزلية والشخصية، إلى النماذج المعمارية مرورا بالتقنيات الطبية مثل إنتاج المفاصل والأطراف الصناعية وأطقم الأسنان، وصولا إلى الأجهزة المنزلية والهواتف. وهي تعد بآفاق لا حصر لها. وتثير إمكانية استنساخ الأسلحة خارج نطاق السلطة، مخاوف من وصول التقنية إلى جماعات خارجة عن القانون بعد أن تمكنت مجموعة تطلق على نفسها اسم “ديفينس ديستربيوتد” من تصنيع أول مسدس باستخدام طابعة ثلاثية الأبعاد، وأطلقت عليه اسم “المحرر” ما أثار قلق أعضاء في الكونغرس الأميركي. وتثير طباعة هذا المسدس مخاوف من وصول ملف التصميم الثلاثي الأبعاد إلى الإنترنت، وبالتالي يتمكن من يملك طابعة ثلاثية الأبعاد من إنتاج مسدس، لا يوجد عليه رقم متسلسل، ولا يخضع لأي عقبات تنظيمية أخرى. ويمكن للطباعة ثلاثية الأبعاد أن تحدث ثورة في مجال التعليم وتوفر أدوات أفضل للطلاب، من الخرائط والأعضاء المجسمة إلى نماذج المركبات الكيميائية. ويعمل مبتكرون أطلقوا على أنفسهم “رِب راب” لتطوير آلة للطباعة ثلاثية الأبعاد يمكنها طباعة معظم أجزائها لتكون قادرة على استنساخ نفسها، ويمكن تصنيفها ضمن الروبوتات مفتوحة المصدر، أي أنها متاحة بالكامل دون قيود أو احتكار للجميع دون أي مقابل. وفي العام الماضي فجّرت شركة ابريشيا للمستحضرات الدوائية الأميركية نقلة نوعية، حين حصلت على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية، على استخدام عقار أنتجته بتقنية الطباعة المجسمة، كونجح جراحون صينيون في العام الماضي في زراعة جمجمة صنعت بالطباعة ثلاثية الأبعاد، لطفلة مصابة بمرض استسقاء الرأس، لتواصل نموها بطريقة طبيعية. وجرت عملية مماثلة في هولندا لمريضة عمرها 22 عاما. وكانت شركة لوكال موتورز قد سرقت الأضواء في معرض أميركا الشمالية للسيارات في مدينة ديترويت الأميركية العام الماضي، حين مكنت الزوار من متابعة طباعة سيارة داخل المعرض، يمكن قيادتها فور انتهاء عملية إنتاجها بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد. ويرى الخبراء أن هذه التقنية المفتوحة المصدر، بعكس التقنيات المحتكرة من قبل الشركات، ستسمح للمبتكرين بتطويرها بدءا بالبرامج والأجزاء الميكانيكية وحتى الخامات المستخدمة للوصول إلى أعلى جودة ممكنة بأقل تكلفة. وتثير هذه التقنية مخاوف من انتشار القرصنة والفوضى الاقتصادية، حين يستطيع أي شخص استنساخ ما تقع يده عليه دون اعتبار لحقوق الملكية الفكرية، إضافة إلى إحالة مئات الملايين إلى البطالة. وتشير عناوين الأخبار الواردة من الصين إلى أنها تقود العالم في الاستخدامات الواسعة لتكنولوجيا الطباعة ثلاثية الأبعاد، بعد أن وضعتها في أولويات أهدافها الاقتصادية الكبرى. ولم تقف بكين عند الاستخدامات الصناعية بل أخذتها إلى نطاق أوسع لتصنيع طابعات عملاقة تستخدم في عمليات بناء المساكن والعمارات المرتفعة والجسور، التي يتم إنجازها خلال وقت قصير. وفي الشرق الأوسط تنفرد الإمارات بإعطاء اهتمام كبير بمستقل هذه التقنيات المستقبلية. وقد أطلق الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة وحاكم دبي في عام 2016 استراتيجية لتنفيذ الطباعة ثلاثية الأبعاد بهدف تعزيز مكانة دبي كمركز للابتكار. وتهدف الاستراتيجية إلى الوصول إلى طباعة نسبة 25 بالمئة على الأقل من جميع المباني الجديدة في دبي باستخدام التكنولوجيا ثلاثية الأبعاد. وتم إنشاء أول مكتب مطبوع بتكنولوجيا الطباعة ثلاثية الأبعاد في مركز دبي المالي العالمي لبناء تصور حول المكاتب المستقبلية. ويشير تسارع الابتكارات والفرص الناشئة عن الطباعة ثلاثية الأبعاد، إلى أنها ستفتح الآفاق لعصر من المنتجات والخدمات والتطبيقات الرائدة الجديدة. وستأخذنا تلك الابتكارات إلى عالم جديد من الفرص التي لا يمكن تصورها حاليا. دواء مساعد لعلاج الصرع.
مشاركة :