يحتضن شارع المتنبي (وسط العاصمة العراقية بغداد) الحركة الثقافية المعرفية في بلاد الرافدين، ويرفدها بالكتب والمطبوعات، كما يحتضن تفاعل جمهور المثقفين وطلاب المعرفة، في مشهد يقترب من حال حديقة هايد بارك في العاصمة البريطانية لندن. وأمام المكتبات الكبيرة ودور النشر المتراصة على جانبي شارع المتنبي، تمتد مساطب خشبية يعرض عليها باعة الكتب آلاف العناوين لمؤلفات ومطبوعات جعلت الشارع مقصدا للمثقف العراقي الباحث عن الجديد. وفي يوم الجمعة من كل أسبوع، تتوافد أعداد كبيرة من الزائرين الذين يغص بهم الشارع، وكورنيش المتنبي، والمركز الثقافي البغدادي، وساحة القشلة التاريخية، وتتنوع التجمعات لإبداء الآراء، وعقد الندوات واللقاءات المختلفة وقد تصل أحيانا إلى التظاهرات. كما تتعالى هناك أصوات المدونين والناشطين على مختلف مشاربهم وتوجهاتهم الفكرية والثقافية والسياسية، وهم يخاطبون المارة لجذب انتباههم، وترافق ذلك أنشطة فردية لفنانين ورياضيين وسياسيين يبحثون عن آذان تصغي لأصواتهم، ووجدوا في الشارع متنفسا لهم. لقاء وتتوزع على أطراف المكان وقفات احتجاجية لموظفين وطلاب وأكاديميين يعلنون فيها مطالبهم، بينما يقف في زوايا أخرى شعراء ومطربون، وتعلو أصوات العزف الموسيقي لفرق أو أفراد. ويجري الناشط المدني عمار الساعدي لقاء أسبوعيا في ساحة القشلة، اختار له عنوان التنوير الإنساني، حيث يناقش فيه قضايا فكرية متنوعة، وتتخلل اللقاء وقفات شعرية ومناقشات فكرية عبر النقاش المباشر مع الحاضرين. ويرى الساعدي في الشارع ملاذا آمنا تتوفر فيه الحرية للتعبير عن الرأي، لكن الوقفات والتظاهرات ليست بالمستوى المطلوب لعدم تشكل رأي عام حولها، ولولا المشهد السياسي الطائفي اللاعقلاني لرأينا الأفضل لتوافر عناصر الوعي الحقيقي في شخصية الفرد العراقي. أما أستاذ الفلسفة وسام صبيح فيقول إن المثقف العراقي يعيش ضمن قوقعته التي شكلتها ظروف الواقع العام، وللأسف فإن دوره لم يرق إلى مستوى الحدث، لا سيما في توعية الجماهير نحو الخلاص من الاستبداد الذي نعانيه بسبب سيطرة الأحزاب السياسية والأسر الحاكمة التي لم تعط للمثقف الحقيقي دوره، مضيفا أن الحركة الثقافية في شارع المتنبي حركة نخبوية لا يمكن أن تؤدي غرضها إلا إذا نزلت من برجها العاجي إلى أزقة ومناطق العراق المختلفة. المسدسات غائبة لكن الشاعر أدهم عادل يرى أن مساحات التعبير في المتنبي كبيرة جداً ومتحررة، والسبب أن أصحاب المسدسات لا يقرؤون، وهناك فسحة أمل وتعبير عما يجول في الخواطر، والدليل أن أغلب الكتب الممنوعة في بعض الدول العربية متوفرة وعلناً، فالعراق مدني يحترم الإنسان قبل كل شيء، حتى وإن كانت الثلة الكثيرة ضد ذلك. ويقول الصحفي عبد الجبار العتابي إن شارع المتنبي أصبح محطة للمكبوتين ليعبروا عما يجيش في دواخلهم على اختلاف معاناتهم، فيأتي شخص أو مجموعة أشخاص للتصريح بما يعانون ويكابدون من خلال أصواتهم أو لافتات يرفعونها. معتبرا الحراك الجاري في الشارع ظاهرة صحية. ويرى نوزاد مدياتي -الحاصل على شهادة جامعية في العلوم السياسية- أن التفاعل بين النخب محصور داخل شارع المتنبي لوجود مساحة من الحرية في حدود المكان، ولا تأثير حقيقيا لما يحصل هناك على باقي أفراد المجتمع، بسبب انعدام التأثير على الجو الديني السائد في المجتمع، والنظرة لمثقفي المتنبي على أنهم شيوعيون وملحدون.
مشاركة :