يبقى التعويل الأهم، بل يبقى الخيط الذي يتعلق به الغريق، وسط هذه الفوضى، هو الرهان على الوعي. فلا خلاص من محنة العراق، سوى بانعاشه والوصل به الى ادارك خطورة اللحظة التي تعيشها البلاد، والتي تهدد بشكل جدي وجودها ومصيرها ومصير الاجيال القادمة اكثر من أي وقت مضى! ولأن كل أوراق اللعب التي يمكن ان يعول عليها في لعبة كسب العراق، باتت لا قيمة لها، فأننا لن نقطع الأمل، بوجود ورقة لا يستطيع كل من اسقطوا رهان المراهنين، اسقاطها، هي الورقة الوحيدة التي يعرفون ان لعبها سيعني نمواً مضطرداً للروح العراقية الوطنية الوثابة، نعني بتلك الورقة، هو انعاش الثقافة الوطنية، واعادة ضخ الدماء في شرايينها التي طالها التيبس الذي لحق بكل مفاصل الحياة هنا. اعادة الاعتبار للثقافة كجزء اصيل واساسي من مكونات الهوية العراقية، بل هي الأسمنت الرابط بين مكوناتها، فأن مثل العمل، يعد بحق في طليعة العمل التأسيسي المطلوب في لحظتنا العصيبة. ولذا فأن كل المشتغلين في هذا الحقل الحيوي، يساهمون بوعي والتزام في التأسيس لمجتمع قادر على تجاوز مشاكله الداخلية المتمثلة بالفساد والارهاب والاقتتال والطائفية، وقادر ايضاً على مواجهة المؤامرات التي تحيق به من الخارج، وتهدف الى تمزيقه وتقطيع أوصاله. ان ما يحدث في شارع المتنبي وسط العاصمة بغداد، كل يوم جمعة كان يعكس وبشكل جلي قدرة النخب العراقية على ان تجد متنفسها، وان تبلور حراكها الثقافي بشكل اكثر فعاليةً، ونقل الوعي من مرحلة الانغلاق الذي يعيشه على المنتديات الخاصة والصالونات الادبية والمجالس، الى ما يمكن تسميته بـ"جمهرة الثقافة"، او نقل الجمهور برمتهِ الى داخل الوسط الثقافي، ولقد كان تراكم شارع المتنبي وحراكه مثمراً الى ان وصلنا الى نجد صدى صوت الشارع الثقافي الاهم في العراق، وقد تردد في اصداء اغلب المحافظات العراقية. ولأن الناصرية أذن حساسة ومرهفة، فأنها كانت من بين اوائل المحافظات العراقية تلقفاً لذلك الصوت، ليولد هذا الشارع من رحم مبادرة شابة اطلقها اصحاب المكتبات في الناصرية، بل وعمدوا الى تنفيذها على الأرض دون انتظار او ابطاء، او الاتكال على اجراءات بيروقراطية قد تجهض اي فكرة مثل هذه في مهدها. تجاوز شارع الكتب في الناصرية شهره الأول تقريباً، وهو في بداية مشواره الطويل ليكون نواةً لانفتاح ثقافي اكثر اتساعاً في المستقبل القريب، ولكن هذا مرهون ايضاً بمدى التفاعل الايجابي من قبل السلطات المحلية التي تقع على عاتقها مسؤولية دعم هذا المرفق الثقافي بما يتطلبه وتحويله الى رئة جديدة تتنفس من خلاله المحافظة، كما يتطلب مواظبة من كل رواده وداعميه على ان يحفل الشارع بكل ما هو جديد من كتب ومؤلفات، مضافاً اليها الانفتاح على كل الحقول المعرفية من خلال الندوات والمؤتمرات والمهرجانات وغيرها. حيدر قاسم الحجامي
مشاركة :