لم يكن يعلم جمال رجب صاحب الـ42 عاما، أن وداعه لأسرته قبل خروجه من المنزل هو الوداع الأخير، وأن عودته هذه المرة لن تكون لغرفة نومه وسط أسرته ووالدته ولكنها ستكون لمثواه الأخير.خرج جمال من منزله للذهاب لعمله كعادته كل يوم، وقبل أن يذهب قبل يد والدته كعادته كل صباح قبل الانطلاق لعمله سعيا للبحث عن رزق له ولأبنائه ووالدته التي تعيش معه وفي كنفه بعد وفاة والده، لكنه لم يعلم أن القدر نسج خيوطه، وأن هذه المرة خروج بلا عودة، وأنه لن يرى منزله ثانية لأن عودته لبلده سوف تكون لمثواه الأخير وتشييع جثمانه في مقابر القرية.جمال كان يعمل بأحد المصانع بمدينة السادات، وبدأ يومه كأى ساعٍ إلى رزقه، استيقظ فى الخامسة فجرا وأدى صلاة الفجر حاضرا في المسجد كعادته كل يوم، وتناول إفطاره مع والدته وزوجته وأبنائه الذي يوقظهم كل صباح للذهاب لتناول الفطار معه قبل الذهاب لمدارسهم.وكعادته جلس بجوار والدته يداعبها ويقبل يديها مازحا معها، واصفا إياها بـ"البركة"، كما كان يقول لها دائما ومن حوله أبنائه يداعبهم ويلعب معهم ويمازحهم لتعلقه الشديد بابنائه وحبه لهم، خصوصا انه ليس لديه أشقاء ذكور، وأن أشقاءه جميعهم إناث، وسعى عليهن جميعا حتى زوجهن، وجلس بالمنزل يعول والدته المريضة وأصبح أبناؤه بمثابة أشقائه. ذهب جمال مسرعا إلى حقله ليراعي أرضه الزراعية وحظيرته، وقام بالانتهاء من أعماله الزراعية ثم عاد مسرعا لمنزله، وبدأ يستعد للذهاب لعمله، فارتدى ملابسه وودع والدته وقبل يديها كعادته كل يوم قبل ذهابه للعمل.انصرف لعمله لكنه تأخر بعض الوقت عن موعد سيارة العمل، فقرر الذهاب بالمواصلات العامة إلى مدينة السادات، وبدأ يتنقل بين مواصلة وأخرى وسيارة وأخرى للحاق بعمله، وما إن وصل إلى مصنعه ونزل من السيارة التي كان يستقلها، وهم بعبور الطريق مسرعا للحاق بالعمل، إلا أن القدر حال بينه وبين الذهاب لعمله، فكان قدر الله أسرع بعدما صدمته سيارة أثناء عبوره الطريق وسقط أرضا، ودماؤه تسيل من حوله، وعلى الفور خرج أصدقاؤه من العمل لينقذوه وأحضروا سيارة الإسعاف لنقله إلى المستشفى. وتم تحويله لمستشفي قصر العيني بالقاهرة، وعلي الفور تم إدخاله لغرفة العمليات وقاموا بإجراء عملية له وبترت قدمه من عند الفخذ، وبعد أن استفاق حمد الله وشكره وطلب رؤية والدته التي كانت تصلي أمام غرفة العمليات وتتوسل لله أن ينجي ولدها فلذة كبدها، ودخلت عليه وقبلت رأسه ويديه وقدمه وبكت بكاء مريرا، ثم أمر الطبيب بإخراجها خارج غرفة العمليات حتى لا تسوء الحالة النفسية لنجلها المصاب، خصوصا أنه يعاني من مرض السكر. ثم دخل له الطبيب المعالج وطمأنها على حالته، قائلا إنها في تحسن ملحوظ، مؤكدا أنه سيدخل لإجراء عملية أخرى في الصباح بالرأس، لكن القدر كان أسرع ونسج خيوطه وفاضت روحه في عمله وسط دموع وصراخ أصدقائه، وصرخات شقيقاته التي فضلهن على نفسه وزوجهن من عرقه وكده، حزنا على فراق أخيهم وأبيهم الذي حملهم فوق رأسه بعد وفاة والده ولم يكل من طلباتهم.
مشاركة :