لكل دولة شواغلها الداخلية والخارجية التي تتعامل معها من منظور المصلحة الوطنية العليا. واليابان ليس استثناء. فقد كان على رأس شواغلها خلال العقود الماضية، وتحديدا منذ مطلع خمسينات القرن العشرين، معالجة هزيمتها المرة في الحرب العالمية الثانية، والتصالح مع نفسها ومع الآخر، للوقوف مجددا على قدميها كقطب عالمي. وقد نجحت في هذه المهمة باقتدار من خلال تسخير منظومتها الثقافية الخاصة وطاقات أبنائها العلمية في عملية إعادة البناء والنهوض، إلى أن صارت نموذجًا لغيرها من الدول باحتلالها موقع القطب الاقتصادي الثاني عالميا بعد الولايات المتحدة في ظل نظام ديمقراطي صامد ومجتمع مستقر آمن. وظلت هكذا لسنوات طويلة إلى أن أطلت جارتها الصينية برأسها لتسرق منها المركز الاقتصادي الثاني وتحيلها بالتالي إلى المركز الثالث. اليوم لا تشغل اليابان نفسها كثيرًا بهذا التصنيف من منطلق إيمانها بأن كل المؤشرات الاقتصادية والسياسية تعمل في نهاية المطاف لصالحها، لكنها في الوقت نفسه مهمومة بموضوع آخر أخطر هو ما تسميه بـ«النزعة التوسعية الصينية في مياه المحيطين الهندي والهادي» التي تمثل الشريان الرئيسي لاقتصادها وتجارتها ووارداتها من النفط. وكدولة جربت في الماضي تداعيات التوسع والهيمنة والعسكرة، واكتوت بنيرانها وتداعياتها، فإنها تعي هذا المعضلة جيدا، فصارت على رأس شواغلها اليوم، بمعنى كيف تتصرف لتطويق الأحلام الصينية ومحاصرة الحقائق الجيوسياسية الإقليمية سريعة التغير المتأتية من تزايد النفوذ الصيني فيما وراء البحار؟. ولعل نظرة متأنية لما قامت به طوكيو مؤخرًا يدلل على أن محور سياساتها فيما يتعلق بالصعود الصيني يدور في ثلاثة اتجاهات: أولها بناء شراكات سياسية واقتصادية وعسكرية مع الأقطار التي تشك في نوايا بكين أو بينها وبين الأخيرة جفاء تاريخي أو صراعات مستجدة مثل الهند والولايات المتحدة، وثانيها تعزيز التعاون مع الدول التي تستهدفها بكين في منطقتي جنوب آسيا وجنوب شرق أسيا مثل بنغلاديش ومينمار وسريلانكا والنيبال وإندونيسيا. أما الاتجاه الثالث فهو منافسة بكين في ما تقدمه الأخيرة لبعض الدول النامية من قروض ومساعدات ومساهمات في مشاريع البنى التحتية دونما ربط الدول المستفيدة بشروط رهن أصولها كثمن للسداد على الطريقة الصينية. ويمكن أن نضيف هنا اتجاهًا رابعا يتمثل في تطوير اليابان لقوتها الدفاعية البحرية ونشر أساطيلها في بحر الصين الجنوبي وأجزاء من أعالي البحار تحت مسميات مختلفة مثل: محاربة القرصنة، وتأمين خطوط الملاحة الدولية من الإرهابيين، وحماية سفن الصيد اليابانية. وتمثل الهند الشريك الرئيسي الموثوق لليابان ليس على مستوى التبادل التجاري فحسب وإنما أيضا على مستوى التعاون الاستراتيجي المتمثل في عملهما معًا من أجل تنفيذ مبادرة ممر التنمية الآسيوي الأفريقي الهادف إلى ربط المحيط الهاديء بالقارة الأفريقية عبر المحيط الهندي وبحر العرب بخطوط اتصال. أما بنغلاديش فتمثل منطقة تتنافس فيها طوكيو وبكين بضراوة، حيث تبدو الكفة مائلة حتى الآن لصالح اليابان التي تنخرط في مشاريع إستثمارية تفوق قيمتها أربعة بلايين دولار، ناهيك عن تقديمها منحا لحكومة دكا بلغت قيمتها الإجمالية بحلول نهاية العام المنصرم نحو 1.8 بليون دولار. والدولة الآسيوية الأخرى التي يدور الصراع بين الصينيين واليابانيين على كسب ودها هي جزيرة سريلانكا، وذلك من منطلق أن الأخيرة صاحبة موقع إستراتيجي هام لكليهما كون سواحلها تطل على مياه تعبرها سنويا آلاف السفن المحملة بشحنات النفط وحاويات البضائع. واذا كانت بكين سبقت طوكيو في التغلغل إلى هذا البلد الفقير تحت وطأة حاجتها للمساعدات التنموية، فإن اليابان باتت اليوم متواجدة بها بقوة. وليس أدل على ذلك من نشر البحرية اليابانية لقطعها الحربية حول الجزيرة بموافقة حكومة كولومبو، وتزويد طوكيو قوات حرس السواحل السريلانكية بمعدات عسكرية اشتملت على زوارق وطائرات دورية بملايين الدولارات. ولعل ما يطمئن طوكيو كثيرًا أنها ليست الوحيدة التي تشعر بقلق من التنامي الملحوظ للنفوذ والهيمنة الصينية في مياه المحيطين الهندي والهادئ وفي يابسة بعض الدول المطلة عليهما. فعدا الهند، الغريمة التقليدية للصين، هناك دول كبرى تتبنى سياسة ضرورة كبح جماح الصين والتصدي لعسكرة المحيطين المذكورين مثل بريطانيا، التي لوحظ مؤخرًا تزايد انتشار سفنها وفرقاطاتها الحربية في المياه الآسيوية، وقيامها بمناورات بحرية مشتركة مع البحريتين الهندية واليابانية، بل أن الحكومة البريطانية أفصحت عن عزمها على الإستحواذ على قواعد عسكرية دائمة في جنوب شرق آسيا (الاحتمال الأقرب هو أن تكون هذه القواعد في سنغافورة أو سلطنة بروناي)، وتأكيدها على قرب إجراء تدريبات مشتركة مع الجيش الكوري الجنوبي في بحر الصين. وما قلناه عن بريطانيا ينطبق أيضا على إستراليا التي لم تتردد في الانضمام إلى الهند واليابان لجهة بناء حلف ثلاثي وإجراء مناورات عسكرية مشتركة، وينطبق من جهة أخرى على فرنسا التي تتميز عن بقية الدول الأوروبية بوجود قواعد لها منتشرة في المحيط الهاديء، وتواجد أكثر من مليوني مواطن فرنسي في المنطقة، وهما عاملان يجعلان باريس أكثر حرصا على تحجيم خطط التوسع الصينية. ومن دلائل هذا الحرص أن القوات الفرنسية شاركت نظيراتها الأمريكية واليابانية والبريطانية سنة 2017 في مناورات جرت قبالة سواحل جزيرة غوام.
مشاركة :