الناقد التونسي الطاهر الأمين: أن تكتب يعني أن تجعل من نفسك آخر

  • 2/12/2019
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

لا يحبّ الكاتب والناقد التونسي الطاهر أمين أن ينتمي إلى أي تيار أدبي معاصر أو قديم. كما لا يحب أن يُصَنّف ضمن من يزعمون أنهم ينتمون إلى الحداثة أو إلى ما بعد الحداثة، لأنه يغرف من مصادر مختلفة قديمة وحديثة. لذلك يحضر في كتاباته، فلاسفة الإغريق، كما يحضر جاك دريدا، وميشال فوكو، وهايدغر وغيرهم من الفلاسفة المعاصرين. وهو يستحضر الجاحظ والتوحيدي وابن الفارض ابن عربي مثلما يستحضر طه حسين، والعقاد، والمسعدي، ومحمود درويش، وبدر شاكر السياب، وغسان كنفاني. لكن لا بد من الإقرار بأنه يبدي ميلا خاصا في كل ما كتب إلى حد هذه الساعة إلى كل من المغربي عبدالفتاح كيليطو، والأرجنتيني خورخي لويس بورخيس. السندباد والقراءة الكتابة عند الطاهر أمين تبدو وكأنها تسعى لإعادة النضارة والحيوية لنصوص قد تكون أهملت، أو نسيت، أو عملت أجهزة الرقابة بمختلف أنواعها على محوها وإلغائها. وعن مفهوم الكتابة عنده هو يقول “ستظل الكتابة بوصفها سؤالا إشكالية مطروحة لدى الكاتب والقارئ معا، إذ لا توجد أدنى إمكانية لجواب دوغمائي. هناك أكثر من تفسير لكل كتاب يكتب، وهناك تعددية في اتجاهات الرأي التي قد تلتقي وقد تتعارض بصدد كل أثر نكتبه أو نقرأه. بتعبير آخر، كل كتاب يتجذّر في علاقته بذاته أولا، حيث تتقدم كل كتابة خلف بنياتها الظاهرة والخفية لكاتبها. نحن نكتب داخل الوعي العميق بالحاجة إلى أن نعيد للكتابة حقوقها وامتيازاتها وكرامتها المهدورة في هذه الصحراء العربية القاحلة. تبدو الثقافة العربية منذورة للشفوي الذي يمجّد الكلام رغم تمحورها حول المفهوم القرآني ‘ذلك الكتاب لا ريب فيه’، الذي ربطنا بسياقات دينية وميتافيزيقية شديدة التعقيد. بهذا المعنى، لا تزال الكتابة في مجتمعاتنا شيئا لقيطا ويتيما مقابل الشفوي الخطابي الذي يحاصرنا”. الجامعة تقوم بتثبيت السنن الثقافية وحراستها بشراسة باسم كهنوت أكاديمي تحكمه التراتبية وعلاقات الطالب التابع وعن سؤال لماذا تكتب. لماذا نكتب؟ يجيب أمين قائلا “هذا سؤال لا يطرحه الكاتب ولا يجب أن يطرح عليه. سؤال السبب لا يعني شيئا طالما أن الكاتب يسمح لنفسه بأن يكون أرض الصراع المدمر: إنه (أي الكاتب) كائن مزدوج. فهو من جهة، كاتب الجميع؛ ومن جهة أخرى يصرّ على أن يظل إنسان ذاته، أي وحيدا دائما. الكتابة هي محصلة هذه الازدواجية: أن تكتب يعني أن تجعل من نفسك آخر. هذا الآخر هو الكتابة ذاتها التي تفرض عليك، وبشكل استبدادي، ضرورة صنعها، أي ضرورة أن تعيش عزلتها وأن تحمل أوجاعها. ليس هناك خيار آخر، وليس هناك أصل خارجي يدعوك إلى أن تكتب. الكاتب زمن الكتابة هو سرّ الأصل، لذلك لا يكتب إلا ما هو ضروري، حيث عليه أن يؤكد ذاته باستمرار، رغم أن الكتابة تدفعه إلى أن يتخلى عن ذاته باستمرار. على هذا الأساس، يأخذ الكاتب صورة ملاح متوحد، السندباد البحري الضائع باستمرار الذي لا يكف عن التيه والترحال”. وعن مصادره الثرية والمتعددة، وعن ميله إلى الناقد المغربي عبدالفتاح كيليطو، يقول الكاتب التونسي “كيليطو نموذج أكاديمي نادر جدا. إنه يرفض أن يكون أحد ‘فئران المخبر الجامعي’. في كتاباته لا يبدو حريصا على المحافظة على تقاليد ‘الغيتو’ الأكاديمي الذي قاد إلى التورط في احترافية متعالية تدمّر الروح الأدبية رغم ادعائها بأنها حارسة الأدب. كيليطو قارئ كبير (فهو يشبه ‘دودة الكتب’ التي حدثنا عنها هنري ميللر)، حيث ‘الرغبة في الكتابة تأتي من المتعة المستمدة من القراءة’، كما قال”. بطولة شعرية من أجل الوفاء بدين معرفي وأخلاقي لإدوارد سعيد من أجل الوفاء بدين معرفي وأخلاقي لإدوارد سعيد في كتابات الطاهر أمين تمرد واضح وجريء على الكتابة بمفهومها الأكاديمي والجامعي كما هو حالها في تونس.. يقول حول ذلك “وما هي مواصفات الكتابة بمفهومها الأكاديمي والجامعي؟ هل هي أن نظل ضحايا التلمذة الفلسفية والنقدية بشكل ببغائي؟ هل هي أن نقوم بإسقاط المناهج النقدية على النصوص التراثية والإبداعية بشكل تعسّفي، ودون القدرة على ربط الكتابة بحاجات وأسئلة الحاضر التاريخي المهمل داخل أرشيفات جامعاتنا التي تشبه محفوظات وزارة الداخلية أو أجهزة المخابرات؟”. ويتابع أمين “لا توجد جامعة عربية واحدة قادرة على أن تصنع كاتبا حقيقيا طالما أنها تخون وظيفتها الرئيسية: تثقيف الإبداع، أي ربطه بالمعرفة. هناك فهم خاطئ لوظيفة الجامعة لدى العرب: إنها لا تفتح الكتابة على آفاق جديدة، ولا تمهّد لصياغة إشكاليات معرفية حقيقية داخل حقول البحث المعرفي. الجامعة تقوم بتثبيت السنن والتقاليد الثقافية وحراستها بشراسة باسم كهنوت أكاديمي تحكمه تراتبية مدمّرة وعلاقات الطالب التابع لتمثلات أستاذه. معظم الجامعيين في تونس ليسوا كتابا وعلاقتهم بأسئلة الكتابة برّانية. إنهم لا ينتجون معرفة رغم حرصهم على فرض وصايتهم على الساحة الثقافية. في تونس، قدمت الجامعة نفسها بوصفها أداة ملحقة بالسلطة زمن بورقيبة وزمن بن علي خاصة. ولم تؤكد ارتباطها بالمجتمع وبالمعرفة، وحتى عندما ادعت الانفتاح على المشهد الثقافي فإنها اكتفت بلعب دور شاهد الزور اللاهث وراء الامتيازات”. وعن كتابه الأخير “المثقف النقدي: درس إدوارد سعيد” الصادر في أكتوبر 2018، يقول أمين “كتابي هذا امتداد لكتابي الرابع ‘الأفق النقدي الجديد’ الصادر سنة 2014، إنه يندرج ضمن انشغالي الأساسي بالمسألة النقدية المغيبة في ثقافتنا. كتبت الكتاب من أجل الوفاء بدين معرفي وأخلاقي أيضا لإدوارد سعيد الذي شكل ميراثه الفكري درسا حقيقيا لم يعد ممكنا أن يظل المثقف العربي خارجه. سمح لي درس سعيد بأن أعمّق وعيي بحاجة الثقافة العربية إلى ولادة ‘المثقف النقدي’، الذي لا يستند إلا إلى حسّه النقدي ضمن محافظته على الخط الثابت: الشجاعة في قول الحق. وقد تعاملت مع إدوارد سعيد بوصفه إمكانا تاريخيا لاستكمال إضافته الفريدة إلى جانب مشروع هشام شرابي الهام جدا ‘النقد الحضاري’، وإضافة عبدالكبير الخطيبي العميقة ‘النقد المزدوج”. وعن حضور الشعر في جل كتاباته، خصوصا في كتابه “متسول النسيان”، يقول الطاهر أمين “كتابي الجديد ‘متسول النسيان’ كتاب شذري يتمحور حول موضوعة واحدة هي النسيان. الكتابة الشذرية التي هي كتابة مضادة كما سادت مع نيتشه وإميل سيوران وبعض كتابات موريس بلانشو، وعربيا مع أنسي الحاج في ‘خواتم’، تشترط أن تكون متحررة من كل قيد رغم صرامتها اللغوية. هذا يعني أنها تشترط لغة نظيفة جدا من أجل تكثيف المعنى. الاقتصاد اللغوي الذي تشترطه الكتابة الشذرية لا يجب أن يفهم منه اختزال القاموس العربي. الشعر لا يمكن أن يكون الوجه الآخر لفعل الاختزال الذي يمارسه الكثيرون من شعرائنا. أفهم الشعر بوصفه قدرة الكاتب على فضح لغته حتى الأقصى. لا توجد لغة شعرية جاهزة لذلك على الكاتب أن يأخذ لغته إلى عزلتها المطلقة حيث تصطدم بفتنتها الأولى، وحيث يصطدم هو بكثافة كينونته. صحيح أن ‘البطولة هي النثر’، كما قال سليم بركات، ولكن النثر يكتفي بالمعنى دائما. هناك كتب نحتاج لكتابتها إلى بطولة أخرى غير بطولة النثر”.

مشاركة :