ماذا يعني أن تكتب زينب شرف الدين ضمن «المحترف»؟

  • 12/19/2015
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

تطرح رواية زينب شرف الدين الصغيرة أسئلة حول الكتابة الأدبية والأعمال المنجزة ضمن المحترفات. «قبل صلاة الفجر» صدرت عن دار الساقي، بيروت، بالتعاون مع «الصندوق العربي للثقافة والفنون» (آفاق) الذي موّل أربعة وتسعين مشروعاً أدبياً منذ 2007، وأُنجزت في إطار «محترف نجوى بركات». ماذا تعني الكتابة ضمن محترف؟ وكم يتدخّل المسؤولون عنه أو يشرفون؟ هل تعتبر النصائح التي تتعدى التصحيح اللغوي تزويراً؟ الناشرون في الغرب يميلون إلى الإرشاد والمراجعة سعياً إلى كتاب ناجح تجارياً ونقدياً، لكنّ كثيراً من الكُتّاب القديرين فنياً ولغوياً عندنا يرفضون الفكرة ويرونها عملية تجميل خادعة تنافي الحقيقة، وتحسّن منافسيهم. يحدث أن يتحوّل هاجس الكتابة «الأدبية» عقدة تنتهي بالتكلّف والإنشائية، في حين أن المطلوب من اللغة خدمة رؤية الكاتب للحياة وتحولاتها، وتظهير الداخل بابتكار سلس. تعتمد زينب شرف الدين سرداً تسجيلياً مستعجلاً أحياناً، ويحتاج نصها «الإخباري» إلى إيقاع مسترخٍ. يكتفي بناء الشخصيات بتعريف أوّلي، ويغيب التفصيل غالباً عن الحياة المعيوشة في المنزل، العمل، الحب والحياة الباريسية. لكن شرف الدين تنجح في مفاجأة القارئ في النهاية، وتؤدي رحلتها الفيزيقية إلى الانعطافة الكبيرة المتوقعة في حياتها. تعمل نورهان في صيدلية باريسية مسؤولةً عن قسم العلاج بالأعشاب. تتلقى ليلةَ صيفٍ مكالمةً من صديقتها ميساء في بيروت تنبئُها أن والدها أصيب بذبحة قلبية وتوفّي. تتناقض استجابتها للنبأ، فبعد أن تقع وتحس أن منافذ جسدها أغلقت كأنها تحتضر، تسلّم نفسها في الحمام «لدفق مياه رحيمة حجبت، ولو لدقائق متقطعة، شريط الذعر المصرّ على إيلامها، وأشاعت بعض ثقة بأن تعود وظائفها البيولوجية إلى وقعها الطبيعي. تفعل المياه ما يتوجب على عقلها أن يفعله في خدمة جسمها في مثل هذه الحالات» (في الصفحة 14). لا تنقل نورهان الحزن والصدمة حين تسلك سلوكها العادي، فتدلّك جسدها بالمنثول وتحرق زيت البرغاموت لتسترخي (الصفحة 29). تعجز عن تذكّر ملامح والدها. زارت بيروت مرة واحدة مذ غادرت إلى باريس في الثامنة عشرة منذ اثني عشر عاماً، وتشير إلى زيارة واحدة لوالديها لها طوال تلك المدة. هل يعقل أن يزورها أهلها مرة واحدة وهي ابنتهم الوحيدة وكانت المدللة عند أبيها؟ كان أفضلَ درامياً أن تعصيها هيئة والدها لحزنها واضطرابها، لكن التعبير اللغوي عن حالتها يتابع زوغانه. تنفض شعرها «للتبرؤ من آثار التصدع العاطفي الذي حلّ بها. لم تعرف أي نظرة ترتدي» (الصفحة 19). حين تسمع الموسيقى تنساب المعزوفة «كرائحة ليل خريفي ماطر تضيئه أشعة قمر مكتمل» ( الصفحة 24). في الطائرة تجلس قربها امرأة «فاحشة الطول» (الصفحة 47)، وفي بيروت يسود الصمت السيارة التي تنقلها إلى بيتها، وبتعبير شرف الدين «لم يستقلّ الكلام معهم السيارة» (الصفحة 55). في المقابل تلفت صور جميلة، طريّة منها ملاحظة نورهان «الشاميّة» تحت فمه للمرة الأولى، تقديم الجدة الحاجّة كفنها لابنها، إطلالة مربّيته بثياب من ثلاث طيّات «بألف لون ولون» وأعطيت ثياباً سوداء لتنضم إلى قطيع النساء اللائق الحزن، وحديث الراكبة قربها في الطائرة. لم تعرف نورهان والدها خارج إطار الأبوّة والبنوّة، وإذ يقول ابنا عمّه إنه كان قائداً له تأثير السحر عليهما، تسترجع خفة دمه وولعه بالشعر والبريدج الذي لعبه مع جدتها لأمها، نهلة. تغيب والدتها عن معظم ذكرياتها عنه وتحضر تيتا نهلة بقوة. تزوجته دلال أصلاً انصياعاً لرغبة أمها التي رأته فارس الأحلام. ورثت نهلة القديرة دار النشر عن زوجها الراحل، وتعرّفت إلى منصور كصاحب مكتبة أولاً، ثم كصديق يشاركها بعض اهتماماتها. كان غريباً ارتياحه إلى رتابة دلال، سهولتها وافتقارها إلى التشويق والإثارة، وعدم انزعاجه من عزلتها وكآبتها، وحين اقترح غرفة نوم مستقلة لكل منهما وافقت عروسه انسجاماً مع سلبيتها وميلها إلى القبول بقرار الآخرين الفاعلين في محيطهم. تبدو دلال في العزاء أقل حزناً من والدتها نهلة، وتتذكر نورهان شقيقها نوّار الذي حنت عليه كأنها أمه. طار شَعرها حين لعبت معه فقال إنه يريد أن يكون شَعرَها حين يكبر (الصفحة 25)! لم تعرف دلال إلا الحزن والألم أثناء حملها ببكرها، و «كانت حاقدة على نفسها وعلى زوجها» بسبب ذلك. لكن جسدها استفاق بعد ولادة نورهان، وأشبعت رغبتها بنفسها وهي تتساءل ما إذا كانت بدأت تحيا. تعرّت في حملها الثاني أمام المرآة، وأحست بسعادة وفخر، وافتتنت باكتمال جسدها (الصفحة 37). رفضت الإنجاب في المستشفى، وأصرّت على أنها ستتدبّره بنفسها في البيت. وجد زوجها أمامه مخلوقاً جديداً، واشتهاها كما لم يفعل من قبل، لكنها منعته من الاقتراب منها، فسافر كلما أحس برغبته تغلي. اهتم منصور بنورهان إلى حد التملك، وكان نوّار حصة دلال. حين مرض وعجز الأطباء عن تشخيص علّته، ترددت على البصارات، وزارت أماكن مسيحية ومسلمة، واستعانت بالتعاويذ لاستخراج الأرواح الشريرة. لم تعبأ بسخرية زوجها اليائس، الملتاع من تطيّرها، وأهملت ابنتها بعد موته. لزمت سريرها، فخافت الطفلة أن تموت هي أيضاً. استرقت النظر من ثقب الباب لتتأكد من كونها لا تزال حيّة، و «اشتمّت رائحة حقد مكتوم» خلف شفقتها على أمها (الصفحة 53). جعلتها جدتها الحاجّة تزرع ياسمينة دعتها نوّار في حديقة بيتها في الجنوب، وبقيت نورهان تعاني من كابوس ترى فيه رجلاً يحمل إبرة ضخمة يغرسها في صدر شقيقها الطفل. لا صراع دينياً في وعي نورهان التي ولدت لأم مسيحية وأب مسلم من الجنوب، باستثناء ذكر عابر لمعارضة جدتها الحاجة الزواج ثم قبولها به خشية امتناع وحيدها عن الزواج بتاتاً. عارض منصور قصص والدته عن الأئمة وأهل البيت بسرد روايات أندرسن والأخوين غريم لابنته. سخر من تعاليم أمه الدينية والأخلاقية، وتمرّد نظرياً على المدرسة التي رآها «متيسة» قاتلة للمواهب، وإن نجح دائماً بلا صعوبة وبقليل من الدراسة. لم تتبع ابنته ديناً معيناً، لكنها احترمت الأديان، بخلافه، وانتهت رحلتها باكتشاف شنيع كان رداً مستسلماً على سؤالها. متى اكتشفت الأم السرّ، ولماذا تواطأت بالصمت والقبول؟ لماذا امتنعت نورهان عن زيارة أهلها، وهل بقي في لاوعيها ما رأته يوماً في غرفة شقيقها حين صاح مذعوراً؟ هل يؤدي ما تعرّض له نوّار طبياً إلى موت الجسد لا الروح وحدها؟ وهل كانت بادرة ابن الناطور غفراناً؟ تمر شرف الدين بسرعة على الحقيقة، وتتساءل بطلتها كيف نسيَت ثم تزور قبر الشقيق الصغير قبل صلاة الفجر.

مشاركة :