الخميني لا يزال حاكما ويقسم المسلمين إلى فسطاطين

  • 2/12/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

لم يضيّع الخميني وقتا في الإعلان عن طموح دولته إلى تجاوز حدودها، ولهذا “التجاوز” معنيان.. حرْفي جغرافي، ومجازي استعلائي يتفق فيه الميراث الفارسي والسلوك البهلوي والعصمة الخمينية. وفي ذلك الوقت المبكر من عمر ثورة شعبية انتقمت من المشاركين فيها، بمن فيهم فصائل شيعية، عارضت مصر الرسمية جمهورية الخميني واستضافت الشاه محمد رضا بهلوي، ورحبت جماعة الإخوان المسلمين وقوى يسارية بالثورة التي انتهت جمهورية خمينية، فأصدر كاتب مصري قريب من اليسار، ثم صار أحد منظري اليمين الديني، أكثر من كتاب ينقض نظرية الإمامة، ويرفض مبدأ عصمة الإمام، ويؤكد أن الإمامة ليست من أصول الدين. ففي سلسلة “قضايا إسلامية” نشرت دار الثقافة الجديدة ذات التوجه اليساري كتاب “نظرية الخلافة الإسلامية”، عام 1980، وفيه إشارات سريعة من مؤلفه الدكتور محمد عمارة إلى أن حب آل بيت النبي ونصرتهم كان موقفا سياسيا، ثم صار دينا أو أشبه بالدين، وأن الشيعة صبغوا النظرية السياسية بالصبغة الدينية، فحدث “أخطر تحول في حياة المسلمين الفكرية والسياسية، فلقد غدت السياسة دينا، وأصبحت الخلافات السياسية خلافا في الدين، وبدا الانقسام بسبب الحكم وكأنه انقسام في الدين”. لا أناقش الآن عقيدة مذهبية، وإنما السلوك والممارسات المعلنة. ولا علاقة لي الآن بالجذور التاريخية للخلاف السني الشيعي، ولا أستعرض مصائر آل البيت ومقاتل الطالبيين، ذلك صراع سياسي أفرغه الغرض والعصبية من مضمونه الطامح إلى العدل والحرية، وصنع منه فكرة تم استثمارها في الشحن العاطفي الطائفي وقت الاستضعاف، وإحياؤها مع الاستقواء. ففي أزمنة القهر جرى إقناعهم بأن السلطة والحكم من شؤون الله، وليست من حقوق الشعب، وأن كل شيء مقدّر سلفا. ومع المدّ الثوري ظهرت معضلة أمام الخميني هي أن الإمام الغائب غائب بالفعل. ولا بد من العثور على مخرج فكري ديني يحفر مجرى لهذا الطوفان، قبل أي موجة ارتداد أو نوبة إفاقة، هنا ابتكر مفهوم نائب الإمام المختفي، والنيابة هنا تشمل المهام التي لا ينفصل فيها الدنيوي عن الديني. أترك كتاب عمارة إلى كتاب سبهر ذبيح وهو أميركي من أصل إيراني، ويحمل عنوانه الفرعي “سرد محايد ليوميات الثورة الإيرانية”، ويقدم قراءة لخارطة الملالي قبل وخلال خطوات تأسيس دولة شيعية ستمدد إلى العراق وسوريا ولبنان واليمن. كل ذلك بسبب الإسراع إلى ترسيخ الخميني لمفهوم لم يكن متفقا عليه في الفقه الشيعي. نشر ذبيح كتابه “قصة الثورة الإيرانية” عام 1982، وترجم في القاهرة عام 2004، وفيه إيضاح لم أقرأه من قبل، وهو أن الخميني مُنح لقب الإمام لدى عودته إلى إيران، في فبراير 1979، “وهو لقب تستخدمه الأقلية الشيعية بمدلول أقل مكانة منه لدى شيعة إيران. ومن الأمثلة على ذلك الإمام موسى الصدر في لبنان”، وأن هناك اجتهادات تقول إن المهام الروحية والدنيوية للإمام الثاني عشر، الذي اختفى في غيبته الكبرى عام 940 ميلادي، تُسند إلى المجتهد، فيكون نائبا مفوّضا، ولكن اجتهادات أخرى ترى أن التفويض روحي فحسب، ولهذا لم يشارك آية الله بروجردي بفعالية في السياسة، في عهد مصدق أو بعد إعادة الشاه. وقد أضفى الخميني “صبغة سياسية على فكرة الإمامة”، وأما الدستور الذي جعل النظام السياسي جمهورية إسلامية فيقرر المبدأ الخامس فيه “أنه في غيبة الإمام المختفي، يتولى الفقيه كل حقوق الإمامة وسلطاتها”، وأزعج المبدأ الحادي عشر في الدستور دولا إسلامية؛ لأنه “يفرض على الجمهورية الإسلامية الجديدة واجب القيام بدور داعية الوحدة الإسلامية بهدف توحيد الأمم الإسلامية سياسيا واقتصاديا وثقافيا”، وقام الخميني “بإجراءات استفزازية ضد السعودية”، بدعوة الحجاج إلى الهتاف للثورة بين جموع المسلمين. الخميني لا يمثل الفكر الشيعي تماما، ولا يعبر عن إجماع لاجتهادات علمائه، فيذكر ذبيح أنه في نهاية عام 1979 “بدأ أربعة من آيات الله في معارضته”، وتحولت الثورة الشعبية التي شاركت القوى الوطنية فيها ضد دكتاتورية الشاه “إلى اغتصاب ديني للسلطة”. وسيطر الخميني على “سهم إمام”، وهو تبرع يتلقاه رجال الدين ويعني نصيب الإمام، ومنحه إلى معاونيه وممثليه من الملالي الأدنى مرتبة، وهكذا “استخدم الخميني سيطرته المالية هذه سلاحا ماضيا للانتقام من بعض كبار آيات الله الذين انقلبوا عليه”. كانت معارضة آية الله محمد كاظم الحسيني شريعتمداري لجمهورية الخميني الإسلامية أكثر المشكلات جلبا للمتاعب للخميني الذي استعان بجماعات يسارية في ديسمبر 1979 “لسحق معارضة أنصار شريعتمداري”، ثم كانت هذه الجماعات من ضحايا انتقام الخميني الذي واجه معارضة من آية الله القمي وآية الله الشيرازي، وأصدرا بيانا “هاجما فيه الخميني هجوما مباشرا”، كما رفض عدد من آيات الله الاندماج في الحياة السياسية، وحذروا من تصرفات نظام الخميني المتنافية مع تعاليم الإسلام، إذ “لم تتورع محاكم الثورة عن إعدام المجاهدين المعروفين ممن ناضل بعضهم ضد الشاه بشجاعة فائقة”. ولخص أبوالحسن بني صدر، بعد هروبه إلى باريس في يوليو 1981، المشهد بقوله “إن الخميني قبل الثورة والخميني الآن شخصيتان مختلفتان… خضع لنفوذ رجال الدين الرجعيين المتعطشين للسلطة”. أخافنا شبح الخميني في نسخته الإخوانية، بعد ثورة 25 يناير 2011 وشروعهم في إقصاء مخالفيهم. كنا نتذكر حلفاء للخميني هربوا من الإعدام وآخرين أعدموا، منهم صادق قطب زاده الذي عاد من باريس بصحبة الخميني في الطائرة نفسها. تحالف الليبرالي والإمام ضد عدوهما المشترك، وأصبح زاده أول وزير للخارجية وسرعان ما اتهم بالتآمر على النظام وأعدم عام 1982. الحكم المطلق للخميني ثمرة الإيمان بعصمة الإمام، ويسجل عمارة في كتابه “نظرية الخلافة الإسلامية” أن الإمامة عند الشيعة تقاس على النبوة، فصفات الإمام بما لها من ظلال إلهامية وقوة قدسية “تتجاوز مستواها عند البشر… فما للإمام، كفرد، عند الشيعة، نجده للأمة مجتمعة” عند غير الشيعة، فقد “قاسوا الإمامة على النبوة فوصفوا الإمام بصفات النبي، بل لعلهم الأصول بلغوا بالأئمة ما لم يبلغ الواصفون بالأنبياء!”. وإذا كان الحاكم في الفقه السني والإنساني لا يتمتع بأي عصمة، فإنهم يؤمنون بأن “دفع الإمامة كفر، كما أن دفع النبوة كفر… وامتازت الإمامة على النبوة: أنها استمرت بأداء الرسالة بعد انتهاء دور النبوة”. وفي هذا خلط يسيء إلى ذكاء المؤمن والمواطن عموما، فالخطأ لا يجوز على الرسول وينتقص من مهامه الرسالية، ولكن الخطأ لا ينتقص من الإمام؛ لأنه منفذ للأحكام وليس معصوما، والإمامة منصب سياسي مدني لا يفترض في الإمام “العصمة والاتصال بنبأ السماء”. وبعد ست سنوات، في 1986، سيقول عمارة في كتابه “العلمانية ونهضتنا الحديثة” إن السياسة عند المؤمنين بنظرية الإمامة الشيعية “مقدسة. لأنها دين خالص”، وإن الفكر الإمامي جسدته نظرية الخميني الذي له عند الشيعة “مقام يعلو مقام الملائكة والرسل والأنبياء”. فكم يحتاج المؤمنون بهذه النظرية، لكي يتخلصوا من هذا العبء؟ ربما أجابت احتجاجات نهاية 2017 وبداية 2018، وفيها ارتفعت، للمرة الأولى، أصوات تطالب بسقوط حكم المرشد.

مشاركة :