جميل مطر سئلت فاحترت، وفي غمرة الحيرة لم أجب. سئلت وأنا الملم ببعض أفرع علم السياسة، وأنا الممارس أحياناً للسياسة والمراقب لها في أحيان أخرى، وأنا الصغير الحالم بها عالماً مثيراً، ثم الرجل في منتصف العمر المتمرد على غيها وغواياتها، ثم الكهل طويل العمر المعاصر والمتألم لخيبات أمل لا تحصى، وتطلعات أمم لم تتحقق، ولحكايات عن بطولات ونكبات في ثورات لم تكتمل كل فصولها. سئلت وأنا كل هذا وأكثر فاحترت ولم أجب. أظن أنني لم أعش فترة اجتمعت فيها تطورات سياسية في جميع أوأغلب قارات العالم مثل الفترة التي نعيشها الآن. لا يكاد يمر يوم من دون إضافة جديدة في مشهد فريد من مشاهد السياسة. لم يخطر على بال كثيرين، وأنا منهم، أن الاستقرار مع الرخاء يمكن أن يصنعا مواطناً من نوع دونالد ترامب. هذا المواطن، وبمساعدة ظروف بعينها، استطاع أن يعين نفسه نقيضاً تاريخياً لحال الاستقرار ومعنى الوطن وكمال الدستور وخصوبة الحلم الأمريكي ووحدة الغرب «الديمقراطي». استطاع مستفيداً من تحولات داخلية وخارجية أفرزتها مرحلة العولمة أن يشعلها حرباً لا هوادة فيها بين الدولة التي تعارفنا على وصفها بالعميقة والدولة الجديدة التي سوف نتعارف على وصفها بالضحلة أو السطحية. تلقيت اتصالاً من زميلة تكتب في الصحف الأمريكية، عبرت فيه عن سعادتها لأن سمعها بدأ يتعود على كلمة الاشتراكية في الخطاب السياسي الأمريكي بعد عمر من الإنكار. سمعت الكلمة تصدر على استحياء خلال الحملة الانتخابية لاختيار مرشح الحزب الديمقراطي، وهي الحملة التي فازت فيها هيلاري كلينتون، على السيناتور بيرني ساندرز، وأسمعها الآن مع أصدائها تطلقها النائبة الجديدة ألكساندريا أوكاسيو كورتيز، داخل قاعات المؤسسة التشريعية وأقصد الكونجرس الأمريكي، قلب الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية. جنوباً، وفي أمريكا اللاتينية تحديداً، يتكرر «المشهد النموذج». أقصد مشهد التصرف الأمريكي لتأديب دولة لاتينية. كنت نفسي شاهداً على بداية المشهد ومكلفاً بمراقبة الانتخابات التي جاءت ب «ادوار دو فراي» رئيساً لتشيلي.وقتها تحالفت الكنيسة وألمانيا الغربية والولايات المتحدة ودول جوار لمنع سلفادور آليندي، المرشح عن اليساريين من الفوز. بعد هذا الفوز استجمعت قوى اليسار قدراتها، واستطاعت أن تحقق فوزاً مؤكداً في أول انتخابات لاحقة. الجديد في المشهد أن هنري كيسنجر، تولى إدارته بنفسه. فرض الحصار الاقتصادي على تشيلي متسبباً بحملة تجويع وهروب رؤوس الأموال وإغلاق مناجم النحاس وتشكيل حلف معادٍ للدولة الاشتراكية وتأليب القوات المسلحة على الحكم الشرعي وفرض الجنرال بينوشيه قائداً للجيش واغتيال الرئيس آليندي.بقية المشهد حية في أذهان حكام أمريكا الجنوبية إلى أيامنا هذه، أيام يحل فيها جون بولتون، محل، هنري كيسنجر، متطوعاً لتنفيذ الخطة الكيسنجرية بحذافيرها. حصار اقتصادي لدولة فنزويلا وحملة تجويع لشعبها وما يقترب من وقف بيع النفط الخام. لا الشعارات الثورية البوليفارية، ولا التجارب المتواضعة في تضييق فجوة الدخول، ولا العمالة الاجتماعية، ولا الاشتراكية في أثوابها المتنوعة، ولا الرأسمالية في تنويعاتها المتحضرة أو الوحشية، ولا عودة الجيوش للحكم المباشر أو من الخلف، ولا الالتزام بالديمقراطية واثقاً كان أم متردداً أم انتهازياً، ولا التعهد بالسلوك الليبرالي، ولا ادعاء التقديس للحقوق والحريات، لا شيء من هذا يهم الدول ذات الشأن. تأملت طويلاً في صور صادرة عن اجتماعات قمة الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا. أذكر أنني في أول زياراتي لإفريقيا، وقفت في أكثر من موقع منبهراً بقدرة الإنسان الأبيض على أن يتحول إلى وحش مفترس في اللحظة التي تطأ قدماه أرضاً إفريقية.. شاهدت بالعين المجردة ما خلفه الاستعمار. تمنيت ألاّ يعود إلى إفريقيا. أقرب شيء في التاريخ الإفريقي يشبه الواقع الراهن هو منظر السباق الاستعماري في مؤتمر انعقد من أجل توزيع الأنصبة وتجنب الاحتكاك وتحديد أدوار المشاركين. السباق في طبعته الجديدة أشبه جداً بحال سعار إمبريالي بين دول عادت تتوحش أو بدأت.إنه عصر جديد. الصين تريد مواد خام وثروات طبيعية وتسهيلات وموانئ، لتسهيل نقل وحماية منتجاتها ومشترياتها وأسواق لاستثمار فائض ثرواتها، معظم ما تريده الصين تريده أيضاً روسيا، وجانب كبير منه لا يزال في حوزة الاستعمار القديم الذي لم يغادر أو العائد وبقوة. المؤشرات تشير إلى احتكاكات وربما تطورت إلى اشتباكات. الاهتمام الآن يستجمع قواه ليركز على أنباء القوى الشعبوية الأوروبية، التي تلم أطرافها وتفريعاتها استعداداً لانتخابات البرلمان الأوروبي بعد أسابيع قليلة. قلت من قبل إن بصمات ستيف بانون في كل المواقع صارت بارزة للعين المجردة، ويزداد إصراري فأقولها مجدداً إن معركة الشعبويين القادمة مع الأحزاب التقليدية الأوروبية، وبتعبير أدق مع النظام الأوروبي، سوف تخلف آثاراً عميقة في أوروبا وفي مفهوم ومضمون السياسة في القارات الأخرى.
مشاركة :