على مدى اربعة اسابيع ظللت كل صباح أتلمس أخبار الصديق الدكتور راشد المبارك، بين رجاء استعادة بعض عافيته، وبين مسار المرض الاخير وتعقد وضعه الصحي. ليأتي الخبر مراً في فمي. إن مرارة الحزن على فقده، لتجعلني أضعف قدرة على رثائه أو التحليق في عالم مسكون بكثير من الدهشة، ظلت تولدها ذهنية يقظة لم تتراخ سوى آخر أيام حياته. تتعانق الصور وتختلط المعاني وتترى المواقف، وتظل تلك العلاقة الروحية التي امتدت لأكثر من عشرين عاما تزجي الكثير والكثير.. فأي جانب في شخصيته ألتقط، وأي مفتاح من مفاتيح الخير التي كان يبرع في صناعتها ويجهد من أجلها ويسخر وقته في سبيلها أتناول. لقد كان طموح راشد المبارك أوسع من مدى حياته – مهما تعاقبت العقود – إلا انه لم يكن طموحا يدور حول نفسه ومن حوله، بل كان يعانق على مدى واسع قيم الخيرية والعدالة والايمان الكبير بحق الانسان بالحياة. في كل منحى سنجد من يقرأ في ملامح تلك الشخصية الفذة. مشروعه الثقافي الكبير ليس سوى جانب واحد نذر جزءا من قته وامكاناته لأجله.. ولعل الاحدية التي امتد عمرها لأكثر من ثلاثين عاما.. واستضافت وغشيها كثير من الرواد على مدى تلك العقود الثلاثة وأثرت في مرحلة لم تكن فيها ادوات المعرفة او وسائل الاتصال على هذا النحو أول منبر للحوار في مدينة الرياض.. انما هي شهادة على جلده وصموده وبحثه عن منافذ ولو محدودة لإشعال بريق المعرفة والثقافة والحوار بين النخب والجمهور.. ولم يكن ليحدث هذا سوى تحت رعاية ومدافعة راشد. راشد الاديب والشاعر، ظل يعانق تطلعات العظماء من أفذاذ الادب وأساطين الشعر العربي. كان ذلك الحضور لافتا وهو يستعيد معلقات الشعراء، وسرعة البديهة واستجابة الذاكرة تمده بحبل لا ينقطع من الاستشهادات الشعرية. لم يكن راوية قط. كان متأملا وكاشفا ومستفسرا وشارحا ومتوقفا وناقدا وشاعرا أيضا. راشد العالم والباحث المتخصص في كيمياء الكم، كان طموحه وتطلعاته اوسع من استاذ جامعي في حقل علمي كان يعاني الندرة ويجهد في البحث عن المتميزين. كان وقته ثمينا واحسن توظيفه بين طلابه وبين تطلعاته لدور اكبر وأوسع من حيز الاختصاص. برع في تخصصه كما برع في نسج تلك المنظومة من الاهتمامات لتعطي أكلها إنجازا وقيمة وتوهجا وإرثا سيبقى بعد رحيله. كان يشغله ذلك الانفصال بين العلم وبين المعرفة العامة لأسس العلم وعلاقاته ومفاهيمه.. وجاء كتابه الثمين قيمة وندرة - هذا الكون ماذا نعرف عنه - ليجعل مفاهيم العلم بين متناول القارئ العادي ليجره لحقل معرفة جديد، وبلغة سهلة ميسورة للتمثل والاستيعاب.. تقربه لتصورات ومفاهيم العلوم الطبيعية، حتى لا يبدو عالما غامضا مغلقا على المتخصصين والباحثين. إنه أحد رواد الثقافة العلمية، وفي وقت لم يكن حتى مفهوم الثقافة العلمية متداولا أو أخذ حيزا من الاهتمام. "قراءة في دفاتر مهجورة".. إضاءة فكرية تتوقف عند الكثير من الاسئلة الشاقة، ولكنها تجد بين يدي راشد وقلمه وسحابة أفكاره شلالا من المعاني والانثيالات جعلته في مقدمة ما كتب. ثم تترى تلك السلسلة الرائعة من كتبه، التي لا ترى الوجود حتى يعرض فصولها للقراءة والنقد في ندوة الأحدية، "التطرف خبز عالمي"، "فلسفة الكراهية"، "شموخ الفلسفة وتهافت الفلاسفة". لقد قدرت في راشد المبارك سعة المعرفة، وغبت معه في نشوة القصيد والشعر، وتلمست طريقا للفكر عبر قراءته الفلسفية التي أودعها كتبه وأوراقه المنشور منها وغير المنشور. إلا ان انبهاري بهذا الرجل النادر كان بذله نفسه ووقته وماله وعلاقاته لأجل الاخرين. لقد عشقت في راشد الانسان. لم يكن انبهاري به أديبا او كاتبا او شاعرا على الرغم من أهمية وقيمة وأثر ما ترك. إنما كان يبهرني ذلك الدور الذي وضع نفسه فيه وهو دور المثقف الوسيط. الوسيط بين المسؤول والمجتمع.. حتى لو طالت أكثر الامور حساسية وحرجا وحذرا. كان يبذل من وقته وجهده ما يمكنه من الوصول الى قادة هذه البلاد الذين ادركوا قيمته وحبه لوطنه وحنوه على مجتمعه.. ليستثمر كل هذا في التصدي لقضايا شهدت بعضها وقرأت في أوراقه عن بعضها وعشت فصولا بعينها. راشد الانسان النبيل، كان يوظف قدراته وإمكاناته لخدمة قيم الحق والكرامة والخيرية. كان رجل المروءة الذي يتصدى للظلم ويوظف وجاهته وقدراته وحضوره للإنصاف.. ناهيك عن اصحاب الحاجات الذين لم يكن تخلو في أي وقت منهم دارته العامرة بالضيوف والزوار والمتلمسين المساعدة في أمر من أمور الحياة. في العامين الاخيرين من حياة راشد، أخذ الوهن يتسرب الى جسده. إلا انه لم يستلم لهذا الامر. وكان يجهد كثيرا لئلا يُشعر من حوله بهذه الآلام. وكان يقاوم عوامل الضعف بما يعينه على أداء رسالته التي نذر نفسه لها. إلا انه في العام الماضي بدا أنه يستسلم مما لا بد منه. كان يؤرقني ان يظل مقعده شاغرا في الاحدية التي أحبها وأحبته، وصنع منها المنبر الثقافي الأهم في مدينة الرياض. كان يأتي أحيانا لدقائق ثم ينسحب تحت وطأة التعب والاجهاد. كنت أرى أن شمسه تكاد تغيب، وكان عذابي الكبير عند زيارته في شهوره الاخيرة. كنت أراه مستسلما لقدره، منطويا على صمته، يتردد في السؤال حتى لا تخونه ذاكرته التي بدأت تتهاوى.. إلا انه في لحظات استجابة تخرج بعض ملامح شخصيته الفذة، ليمزج انثيالات تلك الذاكرة البعيدة بحضور نادر.. كنت أستعيد الأمل حينها وأبتهج، لكنني انطوي بعدها في انتظار قدر لا مفر منه! في زياراتي الاخيرة له، كنت شديد التأثر لحال السكون والصمت التي غمرت تلك القامة التي كانت ولادة للأفكار والرؤى والقراءات. كانت تصنع في عوالمنا ألوانا لها بريق الدهشة وسؤال الحيرة وترقب الاشتعال! لقد رأيته في شهوره الاخيرة مُسلما منقادا للرحيل.. كنت أراه رحيلا قبل الرحيل. لم أعد ارى في عينيه ذلك السؤال الحائر.. لا شيء سوى نظرات الوداع بسكينة وهدوء واستسلام. كنت أتحاشى حديث الحاضر.. لم يعد فيه سوى المرارة التي رحمه الله منها في شهوره الأخيرة.. لألتقط شيئا من الماضي، في محاولة لتحريض ذاكرته، وأبتهج حين يبتدر خيط الحديث ليزدهر في عينيه شيء من بريق الحياة الذي بدا أنه يغيب. أستعيد معه حديث القاهرة، ومرحلة الدراسة الجامعية هناك في أواخر خمسينيات القرن الماضي. لا لشيء سوى لأبعده عن ذاكرة اليوم التي يخشى الدخول في أسئلتها التي سرعان ما ينساها. لقد كان راشد مميزا منذ بواكير شبابه. موهوبا في قدراته على اكتشاف المتناقضات، بارعا في عقد الصداقات واحترامها ورعايتها، مميزا في بناء منظومة ذهنية غير قابلة للاختراق، إلا انه لم يكن جمودا وتوقفا بل كان شعلة من حيوية الحضور والمراجعة والتأمل العميق. انني لا أكتب قصيدة شعر بمن أحببت. بل أكتب بعض الواقع الذي عشته وخبرته طيلة أكثر من عشرين عاما. رأيته فيها في حالات الغضب والانشراح وحالات الألم والارتياح، إلا انني لم أره يائسا او مترددا او منصرفا عن قضيته الكبرى. كان في حالة بحث دائم عن مخرج لأوضاع شقت عليه في حياته وستظل شغل ومشقة الباحثين والمشغولين بمجتمعاتهم من بعده. إن ترحل يا راشد إلى رحاب الله.. فلن ترحل كلماتك وآثارك.. ولن تذوي من ذاكرة محبيك وعارفيك صنائعك.. وسأظل أستعيد حضورك وأناجي روحك.. رحمك الله رحمة واسعة أيها الانسان النبيل. لمراسلة الكاتب: aalqfari@alriyadh.net
مشاركة :