ثقافة الجدران العازلة تتعاظم في العالم وتثير قلق المثقفين

  • 2/16/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تثير النزعة المتصاعدة لبناء الجدران العازلة والفاصلة بين البشر في العالم المعاصر قلق المثقفين حيال ماتنطوي عليه تلك النزعة من اتجاه إقصائي وتعميق للانغلاق على الذات ورفض الآخر. ومع اتجاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب "لإعلان حالة الطوارئ الوطنية" لاستكمال تمويل الجدار الذي يسعى لإقامته على الحدود مع المكسيك ، فان "ثقافة الجدران العازلة" تثير قلق الكثير من المثقفين في الغرب فيما تصدر كتب جديدة بعضها في قالب أدبي وإبداعي يناهض "ظاهرة تعاظم الجدران".وفي سياق الخلافات المستمرة بين ترامب والكونجرس ، كان مجلس الشيوخ الأمريكي قد حرص أثناء إقرار مشروع الموازنة الأخيرة على تجنب كلمة "جدار" واستعاض عنها "بسياج" أو "حاجز" ولم يوافق على طلب الرئيس الأمريكي بتخصيص خمسة مليارات دولار لتمويل هذا المشروع مكتفيا بمبلغ 1,4 مليار دولار لتتصاعد الخلافات في واشنطن.وهكذا اتجه ترامب لاستخدام صلاحياته الرئاسية متجها لاعلان حالة الطوارئ لتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتمويل "بناء الجدار الحدودي مع المكسيك" فيما قالت رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي ان المجلس يدرس خياراته للرد على دونالد ترامب اذا اقدم بالفعل على اتخاذ هذه الخطوة.والتاريخ الثقافي توقف طويلا من قبل امام سياسات الجدران العازلة والأسوار الفاصلة واشهرها في الذاكرة العالمية سور برلين الذي كتب سقوطه في نهاية ثمانينيات القرن العشرين تاريخا جديدا للعالم ونهاية للحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة و"منظومة حلف وارسو" بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق.وفي كتاب جديد صدر في قالب قصصي بالانجليزية بعنوان "الجدار" ، يمكن للقاريء أن يلاحظ بسهولة مناهضة المؤلف جون لانشستر "لثقافة الجدران التي يتحمس لها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب".وجون لانشستر كاتب صحفي وقاص بريطاني ولد في الخامس والعشرين من فبراير عام 1962 ، وتكشف سيرة حياته عن تعدد محطاته في مسيرته فقد ولد في هامبورج بألمانيا وعاش أيام الصبا في هونج كونج ثم عاد لمسقط رأس عائلته في بريطانيا اعتبارا من عام 1972 حتى تخرج من جامعة أكسفورد ثم انخرط في العمل الصحفي كمحرر ثقافي فضلا عن الأنشطة الأدبية وكتابة القصة.ولعل تعدد المحطات في مسيرة حياته وتنقله بين عدة بلدان يوميء لكراهية هذا المثقف البريطاني للجدران الفاصلة بين البشر ، فيما يصف نفسه بطرافة بأنه "شبه مهاجر" ولذا فبمقدوره أن يدرك مدى عمق مخاوف المهاجرين الأجانب من تعاظم ثقافة الجدران.وإذ أصدر من قبل عدة قصص من بينها "دين السعادة" و"مرفأ العطر" و"السيد فيليب" و"رأس المال" بينما أثارت قصته الجديدة "الجدار" اهتماما ملحوظا في الصحافة الثقافية الغربية ، فان جون لانشستر يرى أن من حق الانسان المعاصر العيش في ملاذ آمن يحميه من مخاطر وجودية ، كما يرى ان استفحال ثقافة الجدران يفضي "لمزيد من السيناريوهات الكابوسية" في عالم اليوم المهدد بكوارث تتصدرها في نظره إشكاليات العدوان على البيئة "حتى لو كان البعض لايريد ان يصدق ذلك".وفي قصة "الجدار" يتصور جون لانشستر بريطانيا ، وهي تحتمي باستحكامات وجدران ومتاريس في مواجهة كارثة بيئية جراء التغير المناخي كما يتطرق "للبريكست" او الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي ، فضلا عن إشكالية المهاجرين الأجانب.وهذا الكاتب المفعم بحب الحياة والمتفائل رغم كل غيوم الكدر في سماء بلاده والعالم يحذر من خطورة تعاظم "ثقافة الجدران الفاصلة بين البشر في عالم واحد" بقدر ما يؤكد حق الأجيال القادمة في حياة كريمة دون تحمل اوزار وخطايا أجيال سابقة امتدت حتى للبيئة وافضت لكثير من مظاهر الكراهية والخوف المتبادل.واذا كان مدير المخابرات البريطانية اليكس يانجر قد تحدث أمس في "مؤتمر ميونيخ للأمن" عن أن "تنظيم القاعدة يعاود الظهور" فلا ريب ان التنظيمات الإرهابية بجرائمها الدموية تسهم بصورة محمومة "في تغذية ثقافة الجدران حول العالم".ومن نافلة القول كما يؤكد صاحب القصة الجديدة "الجدار" ان استفحال "ثقافة الجدران يعبر عن تفاقم الانقسامات السياسية والأيديولوجية بين سكان الكوكب الأرضي" فيما يلاحظ جون لانشستر بأسى ان الآمال التي راودت الكثير من البشر بشأن سقوط ثقافة الجدران مع "سقوط جدار برلين" في نهاية ثمانينيات القرن العشرين قد أحبطت مع عودة تلك الجدران وتعاظم افكارها الاقصائية وممارساتها القمعية. وفيما يؤكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ان "الجدار مع المكسيك قادم" فالجدران تنتشر الآن في كل مكان بهذا العالم كما يقول جون لانشستر معتبرا ان هذا النمط من ثقافة الاقصاء ، يبدد الكثير من الطاقة الإيجابية ومن ثم فهناك حاجة ملحة لمواجهة هذا النمط من الثقافة "بابداعات أدبية ذات شحنة وجدانية عالية" الى جانب المقالات والطروحات والكتب غير الأدبية.والجدل الراهن حول الجدار الذي يسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لاقامته على الحدود بين بلاده والمكسيك ، يعيد للأذهان حقيقة ان "الجدران العازلة" تدخل بامتياز في صميم السياسات القمعية الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.والأمر متصل بسياسات "الحيز المغلق" على حد تعبير استخدمه جاري فيلدز وهو أستاذ جامعي امريكي متخصص في الاقتصاد وأنظمة العمل المقارنة في كتاب يتضمن سردا قانونيا وتاريخيا للممارسات التي أدت لتمكين المستوطنين من أراضي الفلسطينيين. وهذا الكاتب والأكاديمي الأمريكي يقر في كتابه "حيز مغلق" بأن السلطات الاحتلالية الإسرائيلية تنتهك مواثيق الأمم المتحدة وحقوق الانسان وتتحدى القانون الدولي بممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة.غير ان المفارقة او الفارق الكبير بين "السياسات المعلنة والسياسات الفعلية" ان يتبنى نظام الرئيس التركي رجب طيب اردوغان سياسة الجدران العازلة والأسوار الفاصلة التي تنتهجها إسرائيل مع الفلسطينيين لتدفع تلك المفارقة محللين سياسيين لمقارنات مثيرة للتأمل.وتتجلى "ثقافة الأسوار الفاصلة والجدران العازلة" في ممارسات السلطات التركية ضد الأكراد سواء داخل تركيا او في المحيط الاقليمي وخاصة في سوريا وعلى نحو مثير للأسى والأسف خاصة مع تناقض هذه الممارسات مع الشعارات التي يرفعها نظام رجب طيب اردوغان.وكان وزير الدفاع التركي خلوصي اكار قد صرح امس "الجمعة" بأن "القوات التركية ينبغي ان تكون وحدها في المنطقة الآمنة المزمع اقامتها في شمال شرق سوريا" . مشددا على ان هذه المنطقة "يتعين ان تكون خالية من وحدات حماية الشعب الكردية السورية".ويأتي ذلك في وقت لم يكتف فيه نظام رجب طيب أردوغان باغلاق الأبواب وانما مضى قدما في اقامة الأسوار العالية والجدران العازلة على الحدود مع سوريا لمنع دخول الأكراد اراضي تركيا.ومع الخلط مابين السياسات المعلنة والسياسات الفعلية ها هي كلمات احتفظ بها القاموس السياسي-الثقافي الاسرائيلي وخاصة اليمين االمتشدد مثل "الأسوار والجدران والأسلاك الشائكة والحواجز ونقاط التفتيش والمعابر" ، تنتقل بصورة لافتة للقاموس السياسي-الثقافي التركي جراء ممارسات نظام اردوغان مع الأكراد رغم كل ادعاءات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ومحاولاته للظهور بمظهر يختلف عن الحقيقة.انها ادعاءات تسقط عند اول اختبار موضوعي عندما تتجرد من اقنعتها فلا يبقى سوى القمع والقبضة الحديدية والشراسة اللامحدودة مع إعلاء الأسوار الفاصلة وتشييد الجدران العازلة ضمن الخيارات البائسة التي تثير بالضرورة قلق المثقفين في كل مكان.

مشاركة :