«على هامش السيرة» لطه حسين: عقل المبدع يتصدى لقوى الظلام

  • 2/23/2015
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

«هذه صحف لم تكتب للعلماء ولا للمؤرخين، لأنني لم أرد بها إلى العلم، ولم أقصد بها إلى التاريخ. وإنما هي صورة عرضت لي أثناء قراءتي السيرة فأثبتها مسرعاً، ثم لم أر بنشرها بأساً. ولعلي رأيت في نشرها شيئاً من الخير، فهي ترد على الناس أطرافاً من الأدب القديم قد أفلتت منهم وامتنعت عليهم. فليس يقرأها منهم إلا أولئك الذين أتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة في الأدب العربي القديم. وإنك لتلتمس الذين يقرأون ما كتب القدماء في السيرة وحديث العرب قبل الإسلام فلا تكاد تظفر بهم. إنما يقرأ الناس اليوم ما يكتب لهم المعاصرون في الأدب الحديث بلغتهم أو بلغة أجنبية من هذه اللغات المنتشرة في الشرق، يجدون في قراءة هذا الأدب من اليسر والسهولة، ومن اللذة والمتاع ما يغريهم به ويرغبهم فيه، فأما الأدب القديم فقراءته عسيرة، وفهمه أعسر وتذوقه أشد عسراً...». بهذه العبارات قدم طه حسين في عام 1933 لكتاب نشره في ذلك الحين وتبدّى على الفور واحداً من أمتع كتبه ولا يزال حتى اليوم يُقرأ على نطاق واسع ويبدو مفيداً في الوقت نفسه. إنه كتاب «على هامش السيرة» الذي صدر بعد سنوات قليلة من صدور كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ما إن ظهر حتى أحاطته ضجة سلبية واسعة وهوجم وكُفّر صاحبه، ومنع وحظر من جانب علماء في الأزهر، ما اضطر طه حسين إلى تغيير عنوانه إلى «في الأدب الجاهلي»، وتعديل عدد لا بأس به من فصوله في طبعة لاحقة. أما كتاب «على هامش السيرة» فكان الأول بين مجموعة كتب ذات طابع ديني لا شك فيه أصدرها طه حسين خلال مراحل تالية من حياته. والحال أنه منذ صدور «على هامش السيرة»، رأى كثر من النقاد ومؤرخي الأدب أن هذا الكاتب إنما أراد أن يلتف على مهاجميه الذين رموه بالزندقة والكفر وراحوا يحاربونه باسم الدين، ما استدعى منه «عودة» إلى الإيمان عبر نصوص أراد من خلالها تأكيد إيمانه ودحض تخرصات مهاجميه. غير أن هذا التفسير لا يبدو الآن دقيقاً حتى وإن كان يتّسم بمنطق لا يمارى. لكن الأقرب إلى المنطق هو أن طه حسين وغيره من الكتاب والمفكرين العقلانيين المصريين اكتشفوا خلال النصف الأول من ثلاثينات القرن الفائت خطورة استيلاء المتشددين الدينيين على إيمان المصريين الحقيقي والأكيد، واستشراء ظاهرة الأحزاب الدينية (خصوصاً «الإخوان المسلمين») واستجابة قطاعات عريضة من الناس لأفكارها، فوجدوا أن من الخطورة مواصلة الغوص في حداثة علمانية كانت تسم قبل ذلك أفكارهم وكتاباتهم - وكانت مؤمنة على أي حال - وترك ساحة استخدام النصوص التراثية ونصوص الفكر الديني للمتشددين يفسرونها على هواهم وضمن إطار أفكارهم الظلامية، لذلك التفتوا إلى ذلك التراث وراحوا ينهلون منه، ليس للتشديد على صواب عقلانيتهم هم، بل خصوصاً من أجل كشف الجوانب المتقدمة والعقلانية والمشرقة من الدين الإسلامي، وهي جوانب راح المتشددون في ذلك الحين يتفننون في طمسها. وضمن هذا الإطار، كما يبدو، جاءت كتب لعدد كبير من الكتاب من بينهم توفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل... وكذلك عباس محمود العقاد. > ضمن الإطار نفسه إذاً، تمكن موضعة «على هامش السيرة». ولعل ما يؤيّد هذا تأكيد طه حسين أنه كتب هذا الكتاب لعامة القراء، مضيفاً: «... وإذا استطاع هذا الكتاب أن يلقي في نفوس الشباب حب الحياة العربية الأولى، ويلفتهم إلى أن في سذاجتها - ويقصد هنا «في بساطتها» - ويسرها، جمالاً ليس أقل روعة ولا نفاذاً إلى القلوب من هذا الجمال الذي يجدونه في الحياة الحديثة المعقدة، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد». ولفت طه حسين هنا - وفي هذه النقطة يكمن لب معركته الفكرية من دون أدنى ريب - إلى أنه يعلم «أن قوماً سيضيقون بهذا الكتاب، لأنهم محدثون يكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه. وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها. وهم يشكون ويلحون بالشكوى حين يرون كلف الشعب بهذه الأخبار، وجدّه في طلبها، وحرصه على قراءتها والاستماع لها. وهم يجاهدون في صرف الشعب عن هذه الأخبار والأحاديث...». فما الذي في هذا الكتاب إذاً؟ > إن فيه، وفق دارسي طه حسين، انتقالاً بـ «أحداث السيرة من الناحية الإخبارية إلى الناحية التشويقية التأثيرية، مع الاحتفاظ بجميع عناصر القصة أو الخبر». من هنا، يمكننا أن نقول إن الكتاب يتألف من حكايات متفرقة وأخبار دوّنها طه حسين على هامش قراءاته التراثية... ولكن قراءتها معاً، وضمن المنطق الذي شاءه ذاك الذي يعتبر دائماً عميد الأدب العربي من دون منازع، تضعنا أمام منظومة فكرية متكاملة تستخدم ذلك القصص التراثي لإيصال رسالة فكرية - إيمانية واضحة... عبر مقطوعات ونصوص يسميها هو «الأدب الحي» أي الأدب المستقى من التاريخ كما تداوله أصحابه ورووه، وليس فقط كما عاشوه، انطلاقاً من إدراك طه حسين أن المروي، حتى ولو كان بعيداً من الواقع، يشكل جزءاً أساسياً من حياة الشعوب وتاريخها، لذلك يكون بالنسبة إليه «أدباً قادراً على البقاء ومناهضة الأيام»... وذلك في مقابل أدب آخر «ينتهي أثره عند قراءته. فقد تكون له قيمته، وقد يكون له غناؤه، ولكنه أدب موقوت يموت حين ينتهي العصر الذي نشأ فيه». وهذا القول هو ما يجعل طه حسين يستطرد قائلاً: «وليس خلود الإلياذة يأتيها من أنها تُقرأ فتحدث اللذة وتثير الإعجاب في كل وقت وفي كل قطر، بل هو يأتيها من أنها قد ألهمت وما زالت، الكتاب والشعراء، وتوحي إليهم أروع ما أنشأ الناس من آيات البيان...». > هكذا، يبرر طه حسين كتابه ويفسره ما أراده منه مضيفاً: «... فليس في هذا الكتاب - أي في «على هامش السيرة» - إذاً تكلف ولا تصنع، ولا محاولة للإجادة، ولا اجتناب للتقصير، إنما هو صورة يسيرة طبيعية صادقة لبعض ما أجد من الشعور حين أقرأ هذه الكتب التي لا أعدل بها كتباً أخرى مهما تكن، والتي لا أمل قراءتها والأنس إليها، والتي لا ينقضي حبي لها وإعجابي بها، وحرصي على أن يقرأها الناس. ولكن الناس مع الأسف لا يقرأونها لأنهم لا يريدون أو لأنهم لا يستطيعون. فإذا استطاع هذا الكتاب أن يحبب إلى الشباب قراءة كتب السيرة خاصة، وكتب الأدب العربي القديم عامة، والتماس المتاع الفني في صحفها الخاصة فأنا سعيد حقاً، موفق حقاً لأحب الأشياء إليّ وآثرها عندي». > حين نشر طه حسين هذا الكتاب كان في الرابعة والأربعين من عمره. وإذا كان هذا الكتاب يحمل الرقم 11، تاريخياً بين مؤلفاته، فإنه - أي طه حسين - كان قد سبق له أن أكد مكانته الفكرية الأدبية، مع كتب مهمة عدة كان أصدرها من قبله مثل «ذكرى أبي العلاء» و «حديث الأربعاء» و «في الشعر الجاهلي» (الذي صار لاحقاً «في الأدب الجاهلي»)، ثم خصوصاً في الجزء الأول من «الأيام» كتاب سيرته الذاتية الكبير. ونعرف أن طه حسين لن يتوقف عن الكتابة والنشر بعد «على هامش السيرة»، حيث إن قائمة كتبه الفردية تصل إلى أكثر من ستين كتاباً يمكن القول أن معظمها إنما هو - على شاكلة «على هامش السيرة» - عبارة عن نصوص نشرت أولاً متفرقة، ثم جمعت في كتب. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن من اهتمامات طه حسين الأولى كان اهتمامه بابن خلدون الذي وضع عنه بالفرنسية أطروحته لشهادة الدكتوراه، كما أن اهتماماته شملت الأدب والفكر اليونانيين وأدب التمثيل في شكل عام وأساطين الشعر العربي (كتبه عن أبي العلاء والمتنبي) والتحديث الفكري («مستقبل الثقافة في مصر») ناهيك بخوضه الأدب الروائي («أديب»، «دعاء الكروان»، «الحب الضائع»). وهو كان في كل المجالات التي خاضها مجلياً مشاكساً وعقلانياً... كما نعرف.

مشاركة :