كنت ولا زلت مؤمنا بأن القوة الناعمة ثروة حقيقية واستثمار مستدام وأسلوب تواصل حضاري وأقوى أسلحة إدارة الأزمات ومواجهة التحديات. لذا، تحدثت عبر المقالات السابقة عن مفهومها وأدواتها، وكيف يمكن لنا أن نخلق استراتيجية خاصة بنا تضع المملكة في مكانها الطبيعي الذي تدعمه ثروتها البشرية والتاريخية والحضارية والثقافية. لكي يتحقق ذلك، لا بد أن نتعرف ونبحث ونستفيد من تجارب الدول التي أصبحت اليوم رائدة في القوة الناعمة واستراتيجياتها وأساليبها وأدوات تواصلها الاستراتيجي، لندرس تجارب الماضي ونعمل بالحاضر لنؤمن المستقبل، فاستعرضت في المقال السابق تجربة اليابان بعنوان «الحاسة السادسة اليابانية»، والتي قامت بعمل مكثف منذ عقود عدة جعلها تصبح اليوم أول دولة آسيوية تصبح ضمن أفضل 5 دول عالميا في التقرير العالمي الأخير للقوة الناعمة. هنا، سنسلط الضوء على المملكة المتحدة أو كما تسمى رسميا «المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وشمال أيرلندا» والتي ظلت طوال الأعوام الماضية ضمن أقوى خمس دول في العالم بالقوة الناعمة، على الرغم من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها، ونتساءل: هل كان ذلك محض صدفة؟ ماذا فعلت بريطانيا لتحقق ذلك؟ وماهي استراتيجيتها؟ في عام 2012م، كانت لدى بريطانيا مناسبتتن هامتتن جدا، الأولى الاحتفال باليوبيل الماسي بمرور 60 عاما على جلوس الملكة إليزابيث على العرش، والمناسبة الثانية كانت استضافة الألعاب الأولمبية الصيفية في العاصمة لندن. ربما يرى البعض أن تلك الأحداث طبيعية من الممكن أن تعقد في أي دولة، ولكن بريطانيا جعلت عام 2012 نقطة الانطلاقة لحملة تواصل وتسويق استراتيجي تعد أكثر حملة تسويقية حكومية دولية طموحة على الإطلاق اختير لها اسم «حملة بريطانيا عظيمة». «حملة بريطانيا عظيمة» انطلقت عام 2012، واستغلت الزخم الدولي باليوبيل الماسي والألعاب الأولمبية لجذب الناس حول العالم لزيارة بريطانيا والاستثمار فيها والدراسة في مؤسساتها التعليمية، إضافة إلى التنسيق المشترك وتوحيد الجهود بين القطاعين العام والخاص لتوليد فرص العمل والنمو ببريطانيا على جميع المستويات والأصعدة. رؤية الحملة كانت أن بريطانيا تملك محتوى عظيما تقدمه للعالم، وجامعات عالمية وأبحاثا رائدة، وشركات تقنية حديثة، وشركات أعمال ريادية، وتستطيع أن توفر للزوار تجربة لا تنسى ومناظر طبيعية خلابة ومناطق جذب رائعة وبأن البريطانيين رواد في الصناعات الإبداعية مثل الموسيقى والأزياء والتصميم والأفلام. أما الهدف فكان أن تجمع الحملة أفضل ما هو موجود وجديد ومدهش في البلاد، وأن تشجع الجميع حول العالم على التفكير والشعور بشكل مختلف عن بريطانيا وإرثها وحضارتها وتاريخها وحاضرها ومستقبلها. «حملة بريطانيا عظيمة» جعلت ركيزتها الأساسية «الشراكات الاستراتيجية»، بحيث تكون هذه الحملة هي (المركز الأساسي) الذي يحتضن ويرعى أنشطة جميع الجهات البريطانية الثلاث (الحكومية والخاصة وغير الربحية)، ويجمعها هدف مشترك هو تحقيق نجاحات بريطانية عالميا في التجارة والسياحة والتعليم والثقافة والاستثمار، مما يعزز في نهاية المطاف الهوية البريطانية والاقتصاد الوطني تحت شعار واحد هو «بريطانيا عظيمة». برنامج «الشراكات الاستراتيجية» الذي انضمت له العديد من الجهات البريطانية أصبح واجهة للحملة وقيمة مضافة تعتز بها، وكان على رأس قائمة شركاء الحملة علامات مثل استون مارتن ومكلارين وبيربري والمجلس الثقافي البريطاني والقائمة تطول. من ناحية أخرى، تم العمل على «برنامج سفراء حملة بريطانيا عظيمة» الذي يختار شخصيات مميزة ملهمة ومؤثرة بمجالات مختلفة، سواء كانوا بريطانيين أو لهم ارتباط ببريطانيا ليكونوا ممثلين للحملة عالميا، مثل الطباخ الأمريكي الشهير ذي الأصول الصينية «كين هوم» الذي يقدم برنامجا عبر شاشة بي بي سي البريطانية، والمغنية الويلزية كاثرين جينكينز وغيرهما، وهؤلاء السفراء اختيارهم دقيق ومدروس لخدمة الحملة ورؤيتها وأهدافها واستراتيجية البلاد. أخيرا، ولكي تكون الحملة مكتملة الأركان واضحة الرؤية متناسقة الجهود، تم تصميم واعتماد «هوية بصرية» موحدة لتكمل الهوية اللفظية المعتمدة - بريطانيا عظيمة - وتتواجد في كل مناسبة وكل محفل وكل نشاط بريطاني حول العالم، إضافة إلى جعل كلمة «عظيمة» هي الكلمة الرسمية الثابتة التي تصف كل شيء بريطاني، فعلى سبيل المثال إن كان الحدث ثقافيا تصبح الهوية «الثقافة عظيمة» وإن كان الحدث يتعلق بالتقنية تصبح «التقنية عظيمة» وهكذا، بشكل اتصالي فريد من نوعه يجمع ما بين اقتباس كلمة من الاسم الرسمي للبلاد - بريطانيا العظمى - والتأكيد لذهن المتلقي بأن كل ما هو بريطاني عظيم ذو فخامة وجلالة وسمو. وفعلا، بدأ العمل منذ عام 2012 وما زال مستمرا حتى يومنا الحاضر، «حملة بريطانيا عظيمة» منذ انطلاقتها وهي تنمو وتكبر وتحقق إنجازات كبيرة بخطوات متسارعة، وأصبحت متواجدة وظهرت في 144 دولة - أكثر من 70% من دول العالم - ونحو 300 مدينة من شنغهاي الصينية شرقا حتى سان فرانسيسكو الأمريكية غربا، ومن كوبنهاجن الدنماركية شمالا حتى كيب تاون الأفريقية جنوبا. كما ساعدت الحملة شركات بريطانية على التصدير للمرة الأولى والتوسع في أسواق جديدة عالميا، وتحقيق عائدات اقتصادية بلغت نحو أربعة مليارات جنيه إسترليني للاقتصاد الوطني. حملة القوة الناعمة البريطانية تثبت وتؤكد ما ذكرته بداية بأن القوة الناعمة ثروة مكتسباتها لا حدود لها، تدعم القيادة السياسية والاقتصاد الوطني وتبرز الثراء التاريخي والثقافي وتخلق فرص العمل وتزيد معدلات النمو والاستثمار والوعي وتعزز التعاون بين كل مؤسسات وأفراد الدولة، والمملكة شبابها الأمل وعقيدتها العمل، واستعراض تجارب اليابان وبريطانيا لا يعني أنها الأفضل، بل هي دراسة لتجارب الماضي للعمل بالحاضر نحو استراتيجية المستقبل.
مشاركة :