جمال حمدان وعبقرية المكان

  • 2/18/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

المفكر جمال حمدان يعد من أحد أعلام الجغرافيا الذي سطر مسيرته العلمية باحثا عن ينابيع العبقرية، لقد عرفت الجغرافيا من أحد أعلامها في القرن التاسع عشر باختصار على أنها «علم المكان»، وتعتبر بحق كذلك، هذا التعريف يغني عن كل التعاريف. وعندما قال المؤرخ اليوناني القديم هيرودوت العبارة المشهورة «مصر هية النيل» كان صادقا، حيث أن مصر واحة مستطيلة على ضفاف النيل، وسط صحراء قاحلة! وتختلف مصر بهذه الكيفية عن غيرها من البلدان الواقعة على حوض النيل من منبعه إلى مصبه! فمصر تعتمد أكثر من أي قطر آخر اعتمادا مطلقا على النيل، مما يعطي لقضايا مياه النيل لديها أولوية استراتيجية قصوى لا جدال فيها. وكتاب جمال حمدان «شخصية مصر» من أهم الكتب التي كتبت ودرست جغرافية مصر من جميع النواحي الإقليمية والبشرية والطبيعية وقد عنونه بهذا العنوان لما أكده في هذا الكتاب على شخصية مصر وتميزها عن سائر المناطق، محاولا النفاذ إلى روح المكان ليستنتج من العبقرية الذاتية التي تحدد شخصيته الكامنة. إن علم الجغرافيا من وجهة نظر جمال حمدان، علم متفرد متوحد بشكل مطلق لا علم نمطي متكرر نسبي، فهو يرى أن الجغرافيا تعمل على توصيف وتحليل شخصية المكان وإبرازه إلى الكيان حيا متألقا، وكأن المكان يتحدث عن نفسه، وتلكم مهارة قلما نجدها عند الجغرافيين من معاصريه. ولد في عام 1928م وتخرج من كلية الآداب، جامعة القاهرة عام 1948م وعين معيدا فيها ثم التحق ببعثة في بريطانيا لدراسة الدكتوراه عام 1953م، وكتب أطروحته بعنوان «سكان الدلتا قديما وحديثا». وألف كتابين: «دراسات عن العالم العربي» و»جغرافية المدن» حصل مقابلهما على جائزة الدولة التشجيعية، وعمره آنذاك 31 عاما. وترك لنا جمال حمدان إرثا عظيما ومن أبرزه موسوعتا «شخصية مصر- دراسة في عبقرية المكان» و»دراسات في العالم العربي». وله أعمال لا تقل أهمية: «أنماط من البيئات»، «المدينة العربية»، «بترول العرب»، «بين أوروبا وآسيا- دراسة في النظائر الجغرافية» وغيرها. ولجمال حمدان رؤى وتنبؤات استراتيجية أبرز فيها مصير القوى العظمى ورسم فيها مسار تلكم القوى مبينا أسباب نشوئها وانهيارها، وبرهن على توقعاته في كتابه «استراتيجية الاستعمار والتحرير»، الذي توقع فيه بانفصال الكتل الأوروبية الشرقية عن الغربية وانهيار الاتحاد السوفيتي قبل حدوثه بواحد وعشرين عاما عام 1989م ومن ثم تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991م. وتحليله لعمق المكان واستراتيجيته في الماضي لم يعد كذلك بعد تطور الصواريخ النووية، إذ تحيد الحجم والضخامة للمكان، وأصبح الاتحاد السوفييتي محاصرا من الشرق بالصين ومن الغرب بالولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى الأساطيل البحرية على جانبيه في المحيطات: الأطلسي والهادي والهندي. أسدل الستار على الجغرافي العربي وعلى مواهبه المتعلقة بعبقرية المكان وذلك بوفاته عام 1993م، ضمن ظروف غامضة حامت حول أسباب وفاته، رحمه الله، وبقي على الجغرافيين سبر أغوار ما خلفه من تراث جغرافي عظيم.

مشاركة :