لولايات المتحدة الأميركية حسمت تعاملها مع منطقة الشرق الأوسط وفقا لرؤية استراتيجية اتضحت معالمها بعد أحداث 2001، ثم 2003، وإسقاط نظام صدام حسين، ثم تبلورت قبل أحداث ما يسمى الربيع العربي وما زالت هذه الاستراتيجية مستمرة حتى الآن، بل وسوف تتبعها في المستقبل وكلما اقتضت المصلحة الأميركية ذلك، هذه الاستراتيجية لا تضع في اعتبارها مصالح شعوب ودول منطقة الشرق الأوسط، وترتكز فقط على تحقيق المصالح الأميركية والإسرائيلية بغض النظر عن مصالح الآخرين بما في ذلك الدول صاحبة الشأن. والاستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط تنطلق من مرتكزين اثنين، الأول، يتمثل في اتخاذ القرار السليم بعد تجربة جميع الخيارات والبدائل، أو كما قال الزعيم البريطاني ونستون تشرشل إن «الأميركيين يفعلون الشيء الصحيح بعد تجريب كل البدائل الأخرى، والمرتكز الثاني، يعتمد على دور المؤسسات الأمنية، والاستخباراتية، ومراكز الفكر وليس الدور العسكري المباشر، وهذه المؤسسات تعمل انطلاقا من ثوابت هدفها الرئيس هو خدمة المصالح الأميركية بغض النظر عن مصالح دول المنطقة، وأيضا بغض النظر عمن يحكم ومدى علاقته بواشنطن، فمن المعروف أن الولايات المتحدة ليس لديها وفاء للأصدقاء من الحكام في أي دولة، وهي تتخلى بسهولة عن أي حاكم عندما يتعرض لظروف صعبة داخلية في بلده سواء بترتيبات أميركية أو نتيجة لمتغيرات داخلية، والأمثلة على ذلك كثيرة منذ تخليها عن شاه إيران، مرورا بالرئيس السادات، ومؤخرا بعد أحداث الربيع العربي تخلت عن مبارك وزين العابدين بن علي وغيرهما، والثابت أيضا أن لدى واشنطن نهجا لا يتغير كثيرا في المحافظة على مصالحها والمصالح الإسرائيلية بالتعامل مع من يستطيع المحافظة عليها بغض النظر عن الأيديولوجيات، أو نمط الحكم، أو المثاليات سياسية، أي اتباع الميكيافلية البراغماتية دون أي اعتبارات أخلاقية، كما أنه من المعروف أن المصالح الإسرائيلية مهمة جدا بالنسبة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وهي مقدمة على مصالح كل أصدقاء واشنطن، ويتضح ذلك من أن الكثير من المستشارين الأميركيين يعتنقون الديانة اليهودية أو على علاقة وثيقة بإسرائيل ويعتقدون أن مصلحة إسرائيل الكبرى حجر الزاوية في الشرق الأوسط. الخطير والخطأ في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط أن واشنطن تحاول دائما أن تمسك بكافة خيوط اللعبة مع كل الأطراف المتناقضة، وتعمل في الخفاء أكثر مما تعمل في العلن (أي السياسية الباطنية) ففي الوقت الذي تتعامل فيه مع الحكومات والأنظمة الشرعية الصديقة، تتعامل سرا مع جماعات الإسلام السياسي التي يمارس بعضها الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك الجماعات الطامحة للوصول إلى السلطة عبر القوة ولا ترى واشنطن غضاضة في ذلك، بل تعتبره إحدى أدوات السياسة الأميركية التقليدية التي تجيد إدارة المتناقضات وتتعامل مع الشيء وضده، وهذا هو واقع وحقيقة السياسة الأميركية التي قد يعتقد البعض أنها تتعامل وفقا لما هو ظاهر. والمرتكزات الحقيقية غير المعلنة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط تعتمد على تكريس التبعية لواشنطن، وخلق بيئة سياسية غير مستقرة، مع زيادة النعرات الطائفية، والحروب الأهلية، والصراعات الإقليمية على أسس عرقية أو قومية أو مذهبية، واستخدام التطرف كورقة للعب بها في الوقت المناسب وبتكتيك استخباراتي دقيق.. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا تمارس واشنطن هذه السياسة في المنطقة العربية؟ والإجابة تكمن في عدة أهداف من بينها: واشنطن لا ترغب في وجود زعامات عربية كبيرة، وستعمل جاهدة على هدم أي زعامة عربية تقف حجر عثرة في وجه المصالح الأميركية والإسرائيلية، أو كما تعتقد الإدارة الأميركية كذلك، حيث تعتبر واشنطن أن الزعامات العربية الكبيرة تعرقل المخططات الأميركية وتمثل خطرا على إسرائيل. لم تعد الولايات المتحدة راغبة في وجود قيادات عربية محسوبة على واشنطن مثل مبارك أو زين العابدين بن علي أو غيرهما كنتيجة ودرس لما حدث في الربيع العربي، وتريد أن تبقي على شعرة معاوية مع الشعوب وجماعات الإسلام السياسي أومن سيصل إلى السلطة مستقلا بغض النظر عن اتجاهاته أو قناعاته، وهي تعتبر أن من سيأتي إلى السلطة في الشرق الأوسط سوف يحتاج إلى واشنطن ويعمل معها على غرار جماعة الإخوان المسلمين التي أثبتت أنها قريبة من واشنطن بدرجة تفوق بعض الزعامات التي كانت محسوبة من قبل على الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط. لذلك فالولايات المتحدة حريصة على الحوار مع جماعات الإسلام السياسي وهي تستقبلها بشكل منتظم ودائم وستظل هكذا، وتعتقد أنها قادرة على إقامة أقوى الروابط معها وتوظيفها لخدمة مشروعها نظرا لحاجتها إليها، وضعف تكوينها السياسي، وعدم خبراتها في الحكم، إضافة إلى احتياجها للتمويل الأميركي، وللحقيقة أن علاقة واشنطن مع هذه الجماعات قديمة قدم نشأتها وفي كثير من الأحيان كانت تحصل الكثير من الجماعات المتطرفة على شهادة ميلادها من واشنطن، ثم تحصل بعد ذلك على الدعم المالي واللوجيستي والاستخباراتي الأميركي. والثابت ضمن أجندة السياسة الأميركية - من وجهة نظر واشنطن - أن الإسلام هو الخصم الحقيقي ومصدر الخطورة الأساسي للولايات المتحدة والغرب، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وغياب الأيدلوجيات الفكرية المناهضة للرأسمالية الغربية، لذلك فالولايات المتحدة تعمل على إضعاف الدول الإسلامية من خلال تفجير الصراعات داخلها أو فيما بينها بغرض إضعاف وانكفاء هذه الدول على مشكلاتها الداخلية بشكل دائم. وأميركا لا تمانع من وجود جماعات مسلحة داخل الدول العربية تمثل تهديدا للسلطة المركزية في بلادها، بل تشجع على وجود هذه الجماعات لاستخدامها في الوقت المناسب وضمن تكتيكات السياسة الأميركية، وخير مثال على ذلك «حزب الله» في لبنان، والحوثيون في اليمن، و«داعش» و«النصرة» والجماعات المتطرفة الإرهابية الأخرى في العراق، وسوريا، وليبيا، ومصر وغير ذلك. كما أن الولايات المتحدة تعمل على زيادة حدة الصراع المسلح بين الجماعات الإسلامية المختلفة، بل تسلحها سرا حتى تصفي هذه الجماعات بعضها بعضا، وتظل في حالة حرب دائمة بما يوفر على أميركا تكلفة وتبعات الحرب المباشرة على هذه الجماعات، وبما يشوه صورة الإسلام. وفي المقابل تهدف أميركا إلى إضعاف القدرات العسكرية للدول العربية وتحول دون امتلاك هذه الدول قدرات عسكرية وقتالية عالية أو أسلحة متطورة، فيما تعتمد واشنطن على القدرات الاستخباراتية بدلا من القوة العسكرية المباشرة لها في الدول العربية، وأيضا تخطط إلى تقليل تصدير الأسلحة إلى دول المنطقة وسوف يتضح ذلك بشكل أكثر تأثيرا في المستقبل المنظور، فهي غير مهتمة بتسليح الجيوش النظامية في الدول العربية بقدر خططها لاستنزاف قدراتها في حروب داخلية. وتهدف السياسة الأميركية أيضا إلى تقليل، ثم إيقاف الاستثمار في مجال النفط في أعماق البحار أي الاستثمار في مجال النفط مرتفع التكاليف، وأيضا عدم التوسع في استخراج النفط الصخري، وسوف تعتمد أكثر على النفط الخليجي والعربي منخفض القيمة بعد أن تدفع بانخفاض أسعاره إلى مستويات متدنية مع محاولة إغراق سوق النفط بالكثير من المعروض، ومن ثم انخفاض مداخيل الدول الخليجية خاصة والعربية النفطية عامة بما يترتب عليه تقليل الإنفاق في هذه الدول وتقليص حجم الموازنات الخليجية بصفة خاصة، وإيجاد حالة من الركود الاقتصادي وتعطيل المشاريع التنموية ومن ثم إضعاف هذه الدول. وفيما يتعلق بترتيب الأوضاع الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة سوف تتوصل قريبا إلى حالات من الوفاق السري غير المعلن مع بعض الأطراف التي تجاهر بالعداء معها بغرض ضمان وجود حالة مستمرة من الصراع وعدم الاستقرار في المنطقة، وبما يزيد الحاجة إلى الدور الأميركي بعد أن بدأت واشنطن تشعر بتناقص وضعف هذا الدور، وذلك على النحو التالي: فيما يتعلق بإيران، سوف تنفذ واشنطن سياسة تجاه طهران مفادها رفع الحصار الاقتصادي عنها، لكن سوف تحافظ على استمرار سياسة «خنق» إيران «اقتصاديا»، وستظل أميركا تتحكم في إيران من الناحية الاقتصادية أو تكون في حكم الوصي الاقتصادي عليها، مقابل إعطاء طهران دورا أكبر في المنطقة. وبخصوص العراق، سوف تعمل واشنطن على ترتيب الوضع الأمني في العراق وسوف تتخذ من «داعش» ذريعة لإعادة انتشار قواتها على الأراضي العراقية، خصوصا بعد أن طلب الرئيس الأميركي أوباما من الكونغرس تفويضا للحرب على هذا التنظيم الإرهابي لمدة 3 سنوات، وتحت مظلة إطالة أمد الحرب سوف يتزايد حجم الوجود العسكري الأميركي هناك وبالفعل أعادت الولايات المتحدة 3 آلاف عسكري إلى العراق تحت مسمى مستشارين عسكريين، وهذا الوجود العسكري إضافة إلى الوضع القلق والهش في العراق هدفه الضغط على بعض دول مجلس التعاون الخليجي، الذي يزداد في ظل التنسيق الأميركي - الإيراني. أما فيما يتعلق بتركيا، فرغم التحالف العسكري الأميركي - التركي والعضوية المشتركة في «الناتو» إلا أن العلاقات في عهد الرئيس التركي الحالي إردوغان ليست على ما يرام بين أنقرة وواشنطن، فالطرح الإردوغاني لا يرقى في كثير من الأحيان إلى الرضا الأميركي أو الموافقة عليه، فالرئيس التركي يتجه نحو نزعة شخصية يسعى من خلالها أن يحقق زعامة ودورا تاريخيا، مما يجعل واشنطن تخشى أن يقود ذلك إلى انسلاخ تركيا من التبعية الأميركية مستقبلا وهو ما لا تسمح به الإدارة الأميركية ولذلك لن يطول بقاء إردوغان في السلطة نتيجة لسلوكه السياسي غير المحبب لشعبه ولدول الجوار وأيضا للولايات المتحدة الأميركية. وعليه فإن الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط لا تكترث، ولا تعطي أهمية لاحتياجات دول المنطقة، ولا تهتم بشعوبها وقضاياهم واحتياجاتهم، أو حتى النخب الحاكمة، التي تتعامل معها تكتيكيا وفقا لمتطلبات كل مرحلة وظرف سياسي أو تاريخي، وطبقا لما يحمي مصالح واشنطن وإسرائيل فقط، وبذلك فإن السياسة الأميركية متغيرة ومتلونة مع كل الدول، فيما تظل ثابتة تجاه ما يحقق مصالح واشنطن وتل أبيب، وعلى دول المنطقة أن تبني استراتيجياتها وتحالفاتها وفقا لظروفها، ومصالحها، واحتياجاتها، والمخاطر والتحديات القائمة والمحتملة، دون التعويل على الدور الأميركي.
مشاركة :