فى إطار رئاسة مصر الحالية للاتحاد الأفريقى, والعمل على تفعيل دور السياسة الناعمة المصرية فى أفريقيا والتى يمثل الأزهر الشريف "خاصة فى غرب القارة" والكنيسة القبطية "خاصة فى شرق القارة وجنوبها" أبرز وأهم أدواتها للعمل والتأثير الثقافى بعيد المدى, والذى قد لا يعيد تشكيل المدركات الذهنية للأفارقة فقط ولكنه يساهم أيضا فى تكوينها.وتستند الكنيسة القبطية فى هذا العمل لخبرة مدارس الأحد والتى احتفلت مؤخرا بالعام المئوى لانطلاقها..وكأنها تعيد اكتشاف مصر القوية والقادرة على تشكيل العقل والوجدان الأفريقى والتأثير فيه بشكل واضح وفعال لصالح السياسة المصرية, ولصالح الوطن فى المجمل انطلاقا من أن الكنيسة المصرية هى كنيسة الوطن بالأساس تمثله خير تمثيل ولا تنفصل أبدا عن توجهاته وأفكاره, ومن سرعة وقوة وانتشار حركة مدارس الأحد المعاصرة فى القارة.تعريف الحركة وتطورها:تعد حركة مدارس الأحـد من أهم الحركات في تاريخ الكنيسـة القبطيـة الحديـث و المعـاصر والتي لعبـت دورا فعالا ومؤثرا في تطوير الممارسـة التعليميـة والفكرية والتربوية والروحية لأبناء الكنيسة سواء في مصر أو في الخارج، فهي قد تحملت مسئولية إعداد النشء و الفتيان و الشباب (من الجنسين) روحيا واجتماعيا، فضلا عن دورها التعليمي الرائد لإبراز الأصول الإيمانية الصحيحة و التأكيد على جوهر المعاني الروحية و اللاهوتية الكامنة في عقائد الكنيسة القبطية، بالإضافة إلى رفع شعار "الإصلاح" أو "البناء الروحي" في شتى نواحي الحياة الكنسية.ويمثل عام 1898 - التاريخ الفعلي لنشأة خدمة مدارس الأحد، حيث قرر المجمع المقدس المنعقد بالدار البطريركية بالقاهرة وجوب تعليم الدين المسيحي للأطفال ولتلاميذ المدارس، وذلك بسبب عدم وجود حصة وقتها للدين المسيحي نظرا لعدم وجود المدرسين الذين على علم بتعاليم إنجيلهم و كنيستهم فرأى المجمع سدا لهذا النقص إنشاء مدارس الأحد.ولعل الفضل الأكبر في تأسيس مدارس الأحد وتطوير الحركة يرجع إلى حبيب جرجس الذي كان يجمع الأطفال ويقوم بتدريسهم دروس الدين، كما أنشأ جامعة أشعة حب يسوع و اتسعت فروعها في الأقاليم وقام بإصدار عدة كتب في هذا السياق فضلا عن مجلة الكرمة، كما نجح في تنفيذ قرار تدريس الدين المسيحي بالمدارس…. وكان من جراء هذا النشاط تأسيس الهيكل التنظيمي لمدارس الأحد عام 1918 في عهد البابا كيرلس الخامس و أصبح حبيب جرجس مقررا لأول لجنة عامة بهذا الخصوص، كما تشكلت عدة لحان فرعية في المحافظات حتى وصلت عام 1927 إلى 85 فرعـا، بالقاهرة و الأقاليم و السودان و الحبشة، مما يعني أن هذه الحركـة قد انتقلت من مصـر لإفريقيـا في مهدها و أحدثت تأثيرها، و وصلت فروع مدارس الأحد في الأربعينيات حوالي 400 فرعا، و ترتب على ذلك انعقاد المؤتمـر الأول لمدارس الأحـد عام 1941، و تم صدور لائحتين منظمتين لعمل مدارس الأحـد في مايو 1946، ثم في يونيو 1949…. و التي مرت بمراحل عديدة ـ لعل أبرزها الاتجاه المعاصـر لتطويرها منذ أن تمت رسامة المتنيح البابا شنودة الثالث أسـقفا عاما للتعليم و التربية الكنسية بالكنيسة القبطية و ذلك بيد البابا/ كيرلس السادس في 30 سبتمبر 1962.تم أيضا في هذا السياق إعادة تشكيل اللجنة العليا للتربية الكنسية، (و رأس البابا أول اجتماع لها في 11/5/1992) لبحث العديد من الأمور الخاصة في ذات الموضوع . و على أية حال، فإنه و حتى تتوحد مناهج مدارس الأحد، فإن المبادئ العامة التي تحكمها شبه موحدة في كل مناهجها الحالية، مع شئ من المرونة و التي تعتبر السمة الغالية للتعليم في مدارس الأحد ـ و هذا يقودنا إلى تساؤل هام :ـ هو أنه في خضم التطور الهائل الذي صاحب الحركة ما هو موقع السياسة في مناهجها و نظام التنشئة الذي تتبعه؟و تساعد مدارس الأحد على تبوء هذا الدور السياسي، بحكم إنها مؤسسة للتنشئة الدينية تجذب الأطفال و تستمر في رعايتهم و تربيتهم دينيا حتى سن الشباب، و من خلال هذه العملية يتكون الفرد الكنسي أو عضو الكنيسة، لا سيما أن مدارس الأحد تخرج للكنيسة أعضاءها و قيادتهـا و كوادرهـا، أي أنها المؤسسـة التكوينية التي تمد الكنيسة برعاياها.و يميل الكاتب إلى تأييد هذا الاتجاه و هو ما يعني أيضا تعـاظم القدرة الثقافيـة للكنيسة القبطية و دور مدارس الأحد ليس فقط في التربية الدينية و السلوكية و لكن أيضا في الغرس الاجتماعي و السياسي الذي تقوم به، و هو الأمر الذي ينطبق على خدمة الكنيسة سواء في مصر أو خارج مصر. و لكن يتبقى التساؤل الهام : هل تناسب خدمة دارس الأحد العمل في القارة الإفريقية خاصة في ظل حركة التطور التي عاصرتها سواء بالنسبة لمستوى الدارسين أو منهج الدراسة ذاته، و هل هذه المناهج في حاجة إلى تعديل لتناسب الواقع الإفريقي؟ كما أنه لابد و أن نأخذ في الاعتبار الإطار التنافسي الذي تعمل الكنيسة القبطية من خلاله في إفريقيا. اولا: جذور أبعاد الدور الثقافي و التعليمي للكنيسة القبطية في إفريقيا:يعد هذا الدور من أكبر الأدوار و أكثرها أهمية في نطاق فعالية الكنيسة القبطية في إفريقيا، ليس فقط لعمق امتداده و ارتباطه ببداية انتشار المسيحية من مصر إلى جيرانها الأفارقة و لكن أيضا لتجدده المستمر و ربطه ما بين التعليم الديني و أعمال الترجمة و النقل للكتابات المسيحية المتعددة باللغات الإفريقية، و ما بين التعليم المدني و إنشاء المدارس و التثقيف العام، رغم ذلك فلم تحظ دراسة هذا الدور بالاهتمام الكافي مقارنة بالأنشطة الثقافية و التعليمية الموازية.وعلى العكس من ذلك فإن لب سياسة التبشير القبطي في إفريقيا )بجانب أنها لا تعمل فى مناطق يقطنها مسلمون مثلا ,حرصا على تدعيم مفهوم الوحدة الوطنية ,فضلا عن تبنى مفهوم أن كل كنيسة مصرية بالخارج هى كنيسة الوطن بأسره...لذا كان أيضا كان من شأنها المحافظة على الجوانب الوطنية و اللغات الإفريقية حيث يربط البعض بين اللغة القبطية و اللغات الوطنية الإفريقية خاصة في شرق إفريقيا ، كما أنها تجاوبت مع أفكار مثل لاهوت التحرير و الأفكار الاستقلالية لدول القارة .و في نفس الوقت عملت الكنيسة القبطية على التركيز على رفع مستوى الثقافة الدينية للمواطـن الإفريقي، و وضع البصمـة القبطية الأصيلة في الممارسـات الدينيـة و اللاهوتية الإفريقية ، و إثرائها ليس فقط بالخبرات و الكفاءات و لكن أيضا بالترجمة و النقل لأبرز أعمال الكنيسة القبطية للأفارقة و خلق كوادر إفريقية أصيلة في مجال الأكليروس الديني بما يتمشى مع القيم و الثقافة الإفريقية الوطنية .أيضا، و بحكم أن الرهبنة المسيحية هي اختراع مصـري خالص، فقد عملت الكنيسة على نشـرها في إفريقيا و منها بنتابوليس، حيث انتشرت الأديرة في الصحراء الغربية على نمط الأديرة الباخومية (نسبة إلى القديس/ باخوميس)، حيث نقلت عنها نظمها و عاشت عليها .أما بالنسبة للكنيسة القبطية و صلاتها الثقافية بإثيوبيا، فهي ترجع إلى دخول المسيحية لها في النصف الأول من القرن الرابع الميلادي ، حيث أنها هي التي وضعت الأسس الأولى للتعليم بها، إذ نقل المطارنة الأقباط أسس التعليم في مصر إلى إثيوبيا في القرون الأولى من تاريخ العلاقات بين الكنيستين الإثيوبية والقبطية .و قد أصبحت مصر هي المورد الثقافي لكنيسة إثيوبيا حيث أخذ كهنتها منذ وقت مبكر في ترجمة كتب "كنيسة الإسـكندريـة" إلى لغتها و كان الإنجيـل من أولها، كما وطدت المسـيحيـة علاقة مصر بأجزاء من إفريقيا دينيا و ثقافيا و اقتصاديا رغم اسـتقلالها عنها سياسيا . أيضا فقد قصد الرهبان المصريون إثيوبيا في أواخر القرن الخامس و أنشأوا الأديرة التي عاش فيها الرهبان الإثيوبيـون على قمم الجبال، و حيث ترجمت قوانين الرهبنة الباخومية إلى اللغـة الإثيوبية، و عرفت هناك باسم (شرعات باكوميس) أي (قوانين باخوم)، كما جمعت سير الرهبان باسم (مصهف منكوسات) أي (صـحف الرهبان) ـ و قد انتشـرت هذه الأديرة في المنطقة الشمالية حول أكسوم ثم انتقلت إلى أجزاء أخري و أصبحت مركزا للنشاط الديني على نحو ما كان يحدث في مصر ـ فقد قام الرهبان الإثيوبيون في هذا العصر المبكر بواجبهم في ترجمة الكتب المصرية إلى لغتهم :اللغة الجعزية"، و من بينها عدة رسائل لآباء الكنيسة كانت تسمى عندهم "كيرلس"، لأنها تبدأ برسالة للبطريرك المصري/ كيرلس الكبير، عن الإيمان الحقيقي كما تعتقده كنيسة الإسكندريـة، و نقل الإثيوبيون أيضا الكتاب المسمى (فسيولوجوس) الذي يجمع بين مجموعة من قصص الحيوانات و النباتات مع الرموز المسيحية .وصـل التعليم الديني في إثيوبيـا إلى قمته مع النهضة الثقافية الدينية في القرون الثالث و الرابع و الخامس عشر، و كان من أشهر المطارنة الذين قادوا حركة الترجمة المطران الأنبا/ سلامة الثاني، و من الكتب التي ترجمت و كان لها بالغ الأثر في حياة الإثيوبييـن ، كتاب "المجموع الصفوي لابن العسال"، فقـد اتخذوه أساسا لحياتهم الدينية و المدنية و سلوكهم في الحياة العامة و مصدرا لأحوالهم الشخصية، حتى يمكن القول بأن الكنيسة الإثيوبية المرتبطة بكنيسة الإسكندرية هي التي بلورت تاريخ إثيوبيا السياسي و الاجتماعي إلى جانب تاريخها الديني، و هي التي وضعت البذور لنهضة أدبية شاملة كان أثرها عظيما امتد في البلاد لعدة قرون، كما ازداد ارتباط الكنيسة الإثيوبية بالكنيسة المصرية، و أصبح كثير من العادات و التقاليد الدينية المصرية منتشرا بين المسيحيين الإثيوبيين ، سواء بالنسبة للصوم أو العادات و الاحتفالات الدينية و غيرها .أيضا لعب الأنبا/ سلامة الثاني دورا كبيرا في نقل النهضة الدينية للكنيسة المصرية إلى الكنيسة الإثيوبية، لدرجة أن لقبه الإثيـوبيـون باسم ترجوامي أي المترجم، فنقل كتب الطقـوس و الميامر "السير" و حياة الشهداء و القديسين و صحف الرهبنة و كتاب الصلوات "الأجبية" الذي أطلق عليه الإثيوبيون اسم ساعاتات ، كما ترجم كتاب التجنيز و مدائح العذراء و حياة الرسل و السنكسار القبطي (سير القديسين)، فضلا عن سير الرهبان و كتب "الدسقولية" المعروفة باسم "دير سقليا" كما نقلت أيضا المجموعة المعروفة باسم "السنودس: أي "المجامع" و غيرها .و لكن لم تستمر حركة الترجمة و التأثير الثقافي المسيحي القبطي في إثيوبيا، فقد تعرضت إثيوبيا لمجموعة من الأحداث السياسية و محاولات التأثير الغربي، من جانب الكاثوليك و البروتستانت إلى أن عاد التأثير الثقافي المصري لإثيوبيا في أوائل القرن العشرين و دعمته المؤسسـات و الأجهزة التي تقوم بدور الثقافة و التعليم في القارة، و لكن يرتبط الأمر بمدى الإقبال على تعلم اللغات الإفريقية، وكذا سياسة التبشير الخاصة بالكنيسة القبطية في إفريقيا .
مشاركة :