يتنازعنا في هذه المنطقة من العالم نوعان من ردَّات الفعل، الأولى هي الاستسلام، والثانية هي الإنكار وإلقاء اللوم على الآخرين، ولدينا في رصيدنا الثقافي والاجتماعي واللغوي الكثير من الأمثال والقصص والشعر التي نستعين فيها على تبرير ما نحن فيه من تراجع وإحباط. بل إننا نبرر لغيرنا أيضا، ونميل إلى تصديق كل ما يقال لنا بشكل مباشر أو عبر الإعلام، وأصبحنا لا نكترث كثيرا بحجم الإحباطات التي تواجهنا كأمة تبحث عن موطئ قدم لها بين الأمم، ولا نلق بالا للأخطار التي تحدق بنا، ولسان حالنا يقول ما قاله المتنبي قبل مئات السنين: «أنا الغريق فما خوفي من البللِ!»، وقوله في مكان آخر: «فما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ». في الواقع، ورغم مشاغلي الكثيرة، إلا أن حديث الأوضاع الجيوسياسية في الإقليم يطغى على غيره من الأحاديث مع المعارف والأصدقاء، ولكل طبعا رأيه، ولكن الجميع يكتفي بالتعليق، دون المبادرة أو الفعل، أو كما نسميها «فشة خلق». من هو عدونا يا ترى؟ من الذي يقف وراء مشاكلنا؟ هل تأتي هذه المشاكل من خارج الحدود بالفعل؟ أم أن العيب الأكبر فينا نحن؟ اعتقد أننا كأمة عربية وإسلامية ما زلنا مختلفين حول الإجابة على تلك الأسئلة منذ الأزل، وسنبقى كذلك مع الأسف. أعتقد أن مشكلتنا الرئيسية هي رفضنا للواقع والوقائع، ومحاولتنا الدائمة القفز على حقائقه، وعدم جرأتنا على مكاشفة أنفسنا. نريد أن نتقوقع، ونريد من يحمينا، ونريد من يساعدنا، ونريد ونريد..، ولكن ليس هناك اتفاق أو شبه اتفاق بيننا حول آلية تحقيق ما نريده. لا زلنا نعيش في الماضي، نستخدم أدوات الماضي لحل مشاكل الحاضر والمستقبل. آينشتاين يؤكد أنه «لا يمكن حل المشكلة انطلاقا من مستوى التفكير الذي أوجدها»، لذلك علينا الارتقاء بأدواتنا وطرق حلنا للمشاكل إذا أرجنا حلها بالفعل، وعلينا أن نكون صادقين مع أنفسنا، وأن نمتلك محاكمة عقلية صحيحة ورؤية جلية للأمور من حولنا، ولأولئك الذين ينكرون حقيقتهم، ويسعون بلا كلل لبيعنا الأوهام. من حالات الإنكار الواضحة التي نراها ماثلة أمامنا، وضع حزب الله في لبنان، فلا تستطيع هذه الميليشيا التي نجحت في السيطرة بالقوة والسلاح على لبنان أن تكاشفنا حل أنها فشلت في إدارة هذا البلد وإعادة ألقه الحضاري والثقافي والاقتصادي، بل إنها تسهم كل يوم بالمزيد من تراجعه وتدميره، لأنها عزلته عن العالم، وأسهمت في انفضاض أصدقائه من حوله، وأبقت له إيران فقط، وإيران لا يأتي منها قوافل السجاد والتوابل أو العلم والحضارة، وإنما قوافل السلاح فقط، وهكذا اكتسى لبنان بالسواد رغم جميع محاولات إنقاذه. السياسيون في العراق ينكرون أيضا الأوضاع المأساوية التي وصل إليها هذا البلد الذي يعوم على بحر من النفط، ويزعمون منذ أكثر من 15 عاما أن الأوضاع هناك ستصبح أفضل، فيما هي تزداد سوءا، وما مظاهرات البصرى الأخيرة إلى دليل على ذلك، وليس هناك ضوء في آخر النفق طالما أن إيران لا زالت تعبث بأمن واستقرار هذا البلد العربي طمعا في تحقيق توسعاتها الخمينية. كما أن من يستمع لبشار الأسد يتكلم، يعتقد أنه انتصر بالفعل، ويكاد يصدق كلامه حول أن سوريا خرجت من أزمتها أقوى، في مشهد تبرز فيه أشد حالات الإنكار، حيث أنه من الواضح أن كل قوى الأرض تتنازع هذا البلد عسكريا وسياسيا واقتصاديا، ولا زال أكثر من سبعة ملايين لاجئ في خيام الدول المجاورة، ولم يستطع النظام حتى الآن إعادة بناء أو ترميم منزل واحد من أصل أكثر من مليون منزل دمرها، أو لنقل دمرتها الحرب، كما أنه عاجز عن تأمين الحاجات الأساسية للسوريين مثل الكهرباء والمحروقات، وخزينته فارغة، وحتى داعميه لم يعودوا يثقوا بقدرته على الوفاء بديونه. أردوغان أيضا يتباهى بتركيا القوية اقتصاديا، لكن واقع الأمر يقول غير ذلك تماما، فالليرة التركية فقدت أكثر من نصف قيمتها في الآونة الأخيرة فقط، والمشاريع الكبرى معطلة بسبب نقص التمويل، وبدأ الأتراك بالفعل يتذمرون من كل ذلك. إيران أيضا تكذب على شعبها، تعده بالنصر والتمدد ودحر أمريكا وإزالة إسرائيل من الوجود، فيما الشعب المسكين يسكن المقابر، ولا يجد قوت يومه، وما يحصل عليه من رواتب لا يساوي قيمة الورق الذي طبع عليه، وكلما اشتدت الفاقة عليه، خرج له المسؤولون بعرض عسكري يستعرض الصواريخ البالستية والقطع الخردة لغزو الفضاء. لا حل أمام الدول الساعية خلف رفاهية شعوبها سوى أن تكون صادقة مع نفسها، وتعمل للمزيد من الانفتاح على العالم، تماما كما تفعل البحرين والإمارات والسعودية، فالبحرين نجحت في بناء سمعتها كدولة ملزمة بالشرعية الدولية والقضايا العالمية الكبرى، ولا زالت الزيارة الطيبة لبابا الفاتيكان للإمارات تلقى ترحيبا عالميا واسعا، وتبني السعودية علاقات وثيقة مع حلفائها في باكستان والهند وأقاصي الأرض، وكل ذلك انطلاقا من إدراك هذه الدول لمسؤولياتها أمام العالم، وسعيها لتعزيز مكانتها وجلب الرفاهية لشعبها. ولا بد هنا من التحذير من مغبة الانغلاق والتقوقع، والتراجع عن الانفتاح الحضاري والثقافي والاقتصادي، ففي عصر العولمة أصبح العالم قرية صغيرة بالفعل، لا يمكن لأحد فرجانها الانكفاء على ذاته، وإنما عليه أن يضمن تحقيق أفضل طريقة ممكنة للتفاعل الإيجابي مع العالم من حوله، بما يحقق بصدق الفائدة المنشودة للإنسانية جمعاء.
مشاركة :