تحقيق: نجاة الفارس تعد الرواية التاريخية نوعاً من السرد الذي يدور حول حوادث تاريخية حدثت بالفعل، يعيد الكاتب إحياءها بأشخاص حقيقيين أو خياليين؛ لتحقيق أغراض حضارية حديثة، فالتاريخ يلتقي بالرواية في نقطة مشتركة واهتمام واحد، ألا وهو إعادة صياغة وبناء العالم الإنساني، وإن اختلفت الأنساق والأساليب، فالتاريخ يعيد بناء الماضي بالبحث والتوثيق والتأريخ المتجدد، بينما تعيد الرواية بناء العالم الإنساني باستلهام الوقائع التاريخية ومنحها بُعداً حكائياً، أما الرواية التي تنقل لنا التاريخ بحذافيره، فالأحرى بكاتبها أن يؤلف كتاباً في التاريخ. «الخليج»، التقت عدداً من الكتاب والروائيين، واستطلعت آراءهم حول معايير كتابة الرواية التاريخية، وأهم إشكالياتها. قالت الروائية لولوة المنصوري: بمجرد ذكر الرواية التاريخية، أتساءل بصدق ماهو التاريخ؟ ومن يكتب لنا التاريخ؟ هل التاريخ رواية أولى، قدمها جانب واحد من زاويته وأهوائه الخاصة؟ ولماذا نتعامل مع التاريخ وكأنه محض حقيقة مطلقة؟. يلتقي التاريخ بالحكاية والشعر منذ أزمنة الملاحم. إن أولى الشعوب التي تحدثت عن نفسها، وأرّخت حياتها عبر الكتابة في ألواحها ببراعة واصفة بدقة طرائق عيشها، وعلاقاتها الاجتماعية والروحية، هم شعوب الهلال الخصيب، والمتأمل في نصوص وملاحم ومتون سومر، يجد تلخيصاً تاريخياً دقيقاً لعقائدهم وأديانهم وآلهتهم وعلاقة الإنسان الروحية بالطبيعة والطقوس، كلها دوّنت في هيئة ملحمية قصصية شعرية، وعليه، فإن تلاقي وتزاوج الأنثروبولوجيا بالأدب والحكاية عريق جداً، منذ بدأ الإنسان يحكي عن نفسه، ويسجل ذلك بالكتابة في ألواحه. وأشارت المنصوري، إلى أن التاريخ يلتقي بالرواية في نقطة مشتركة واهتمام واحد، وهو إعادة صياغة وبناء العالم الإنساني، وإن اختلفت الأنساق والأساليب، فالتاريخ يعيد بناء الماضي بالبحث والتوثيق والتأريخ المتجدد، بينما تعيد الرواية بناء العالم الإنساني باستلهام الوقائع التاريخية، ومنحها بعداً حكائياً يخلع الروائي عليها شيئًا من ذاتِه عن طريق خياله الأدبي المطعّم بالعاطفة، ليقدّم البُعد الغائب في الكتابة التاريخية، وهو البُعد الوجداني الذي تسكت عنه المصادر التاريخية عادةً. إن الرواية التي تنقل لنا التاريخ بحذافيره، الأحرى بكاتبها أن يؤلف كتاباً في التاريخ بدلاً من أن يمنح ما وثّقه من مواد بحثية مسمّى (رواية)، فثمة فارق مابين الروائي والمؤرّخ، الأول يُعمل خياله في نحت فراغات التاريخ، والثاني يحرّك أدوات بحثه في نقل ما دوّنه الآخرون، ويضفي استنتاجه الأكاديمي، ويوثّق مراجعه، وعلى كاتب الرواية التاريخية ألاّ يخاف من الحقائق، بل يتجرأ على استلهامها كمادة خام ومرجعيات معرفية يشتغل عليها بخيال سردي مبتكر. ظلم الروائي ناصر عراق قال: «يبدو لي أن مصطلح الرواية التاريخية، يظلم فن الرواية عموماً، وأن تقسيم هذا الفن إلى رواية رومانسية أو اجتماعية أو بوليسية، جاء من باب الاستسهال، ذلك أن كل رواية في ظني تحمل في بنائها جزءاً من كل ذلك، لذا أفضل أن نقول رواية تستلهم أحداثاً تاريخية، أو فترة زمنية قديمة، ومع ذلك ينبغي على من يتصدى لكتابة رواية تنهض على استلهام التاريخ، أن يسأل نفسه ما الذي دعاه إلى الغوص في الماضي البعيد؟ هل ثمة تشابه بين ما حدث قديماً وما يحدث الآن، فأراد تنبيه القارئ، لذلك من باب أنه لا جديد تحت الشمس، هل يريد أن يناقش قضايا ساخنة حالية، لكنه يخشى من بطش السلطات، فاعتصم بالتاريخ حتى لا يقع في المحظور؟، هل يرفض الواقع الحالي، ويظن أن الماضي كان أكثر حرية وجمالاً وعدلاً، فحاول - التبشير- بالعودة إلى ذلك الماضي -الجميل- كما يعتقد؟». وأضاف: «على الروائي أن يدرس جيدًا، تلك الفترة التاريخية التي يغوص فيها من جميع الجوانب، الصراعات السياسية، الأفكار السائدة، العلاقات الاجتماعية، الملابس، العملات، الأدوات المستخدمة يومياً، إلى آخره، وعليه أن يعلم جيداً أنه ليس مؤرخاً، وإنما روائي، أي أن مهمته خلق حبكة متينة وجذابة قادرة على إمتاع القارئ، وإثارة خياله من خلال إطلالته على أحداث تاريخية معينة». تحديات أما الروائية سارة الجروان، فترى أن الرواية التاريخية تختلف من نص إلى آخر، فقد تكون مرتكزة على مفهوم تدوين قائم بحذافيره لتوثيق سيرة معينة، وبذلك تحاصره صفة الواقعية، وقد تكون رواية ملتحمة بزمن معين وبمأثوراته وبعده الثقافي، ليبني الكاتب فيها عالماً من الشخوص والأبطال، من صنع مخيلته. وقالت: «إن التحديات والصعاب التي تواجه كاتب الرواية التاريخية، لا تعد ولاتُحصى، في حال أراد أن ينتج نصاً ناجحاً، وعليه فإنه يجب أن يؤسس لعدة أقسام، لا يمكن أن يقوم للنص التاريخي قائمة بدونها، منها قسم الزمان، فيستحضره وكأنما ينسلخ من زمانه القائم به، ثم المكان، فيختار مكاناً، يبني داخله أساسات النص، ثم الشخوص وإيديولوجيتها في الحقبة المراد نبشها، ثم العقدة، ومدى ملاءمتها لذلك التاريخ. إن الرواية التاريخية نص عصيّ بحسبي، فهو يحتاج إلى تروٍّ وجهد كبير، في التقصي والبحث الميداني والمرجعي، ويجب ألاّ يفتقر إلى المصداقية». وأضافت: «في التجربة التي مررت بها خلال كتابتي لثلاثية -طروس إلى مولاي السلطان- فقد استغرقني الجزء الأول -الحدال- سبع سنوات، والثاني -سأسميني سعادة- خمس سنوات، وبرغم هذا الوقت الطويل، فقد خرجت بتجربة ناجحة، إذ تقصيت كافة الوقائع والتحقيقات، وأخذت من الرواة، وقرأت وحلّلت ما قيل لي، وما عايشته بنفسي، ثم مرّرته في ماهية المتخيل المؤطر بالطابع التأريخي». لحظة تحول الروائي وليد الشرفا قال: «الكتابة التاريخية هي لحظة تحويل الحقائق إلى شبهات. والمؤرخ يقع دائماً تحت ظل سلطة أو إيديولوجيا ما، فتكون المعلومة فقط هي البطل، في حين تكون لذة الاكتشاف عند الروائي هي إنطاق الأبطال الذين ربما حولهم المؤرخ إلى معلومة جافة، أما بالنسبة لتحديات الرواية التاريخية فهي نفسها في أي رواية». الناقد الدكتور شعبان أحمد بدير قال: «مما لا شك فيه، أن هناك علاقة بين النصّين التاريخي والروائي؛ حيث إن كليهما لا يكشف عن نفسه إلاّ في نص سردي قصصي، حتى إن رولان بارت يرى ألاّ فرق بين سرد المؤرخ لأحداث الماضي، والسرد القصصي للرواية أو الملحمة؛ بل إنه يعتبر السرد التاريخي شكلاً من أشكال الأدب، ولكن الفارق بينهما أن التاريخ ضرب من المحكيات ذات النزوع إلى الحقيقة، فيما السرد المحكى تخييلي، حيث إن المؤرخ يتحرى الحقيقة في عملية السرد، ويعطي مقابله المفهومي، بينما الروائي ينشئ الواقع أو يعيد بناءه». وأضاف: «على كلٍّ، فإن الروائي الذي يتطلع لكتابة رواية تاريخية، عليه أن يستغل هذه السمة المشتركة بين الرواية والتاريخ، ألا وهي السرد، فالرواية التاريخية تعد نوعاً من السرد القصصي الذي يدور حول حوادث تاريخية حدثت بالفعل، يعيد الكاتب إحياءها بأشخاص حقيقيين أو خياليين؛ لتحقيق أغراض حضارية حديثة، وفق أهداف الكاتب نفسه، ومدى وعيه بمفهوم الرواية التاريخية، وهل المقصود بها: إعادة صياغة التاريخ في قالب روائي سردي؟ أم توظيف بعض أحداث التاريخ كرموز ومعادلات موضوعية متجاورة، تقول روائياً ما لا يستطيع الكاتب قوله صراحة، وتستجيب لفعل الخيال الخلّاق». وأوضح بدير أن كاتب الرواية التاريخية يجد نفسه أمام ثلاثة اتجاهات: أولها أن يستغل أحداث التاريخ كإطار يعبر من خلاله عن حياة الناس في عصره، ويسعى إلى معالجة أخطاء مجتمعه، بذكر الأحداث التاريخية التي تأتي كرمز أو معادل موضوعي للهدف الذي يريد تحقيقه. أما ثاني هذه الاتجاهات أن يكون هدف الكاتب هو إحياء أحداث التاريخ المضيئة وإبرازها ونقل أحداثها بأمانة وعدم تزييفها، بأسلوب فني مبدع وطرق جديدة جذابة ومشوقة. والاتجاه الثالث هو اتجاه الرواية التاريخية الجديدة، ورائدها جمال الغيطاني، وروايته «الزيني بركات» التي جعلت للرواية، دلالات فكرية ورؤى متعددة، وفتحت النص على كثير من القراءات التي تتصل بالماضي والحاضر والمستقبل ضمن زمن دائري. مفهوم أدبي مراوغ قال الروائي وليد علاء الدين : شغلني سؤال التاريخ في الرواية، مثلما شغل الكثيرين من الأدباء والمؤرخين والباحثين، شخصياً أنفر من مصطلح -رواية تاريخية- وأراه في حاجة إلى تغيير، وقبل التغيير في حاجة إلى إيضاح يشبه الاعتذار، والسبب في ذلك أنه مصطلح -ليس فقط فشل في تحقيق الهدف منه- بل إنه أوهمَ وأوحى بما لا تجوز صحته، إلاّ بشرط وحيد لا يمكن الالتزام به في فن الرواية: وهو تحري الصدق الكامل، وعدم التعرض لأحداث وشخصيات التاريخ سواء بالإضافة أو الخصم، وإلاّ أصبح تزييفاً لا يمكن تصحيحه، وإذا تحقق هذا الشرط في رواية فإنها تلقائياً سوف تغادر مساحة الأدب والفن إلى مساحة البحث التاريخي، مهما بدا الأسلوب عذباً وسلساً ومشوقاً، وبذلك لا يجوز أن نقول رواية تاريخية من الأساس، هذا معيار أخلاقي إنساني لا أراه قابلًا للتفاوض. إذن، هل نحرم الروائيين من منهل كبير وثري كالتاريخ؟. والإجابة بالطبع لا، فمشكلتنا ليست مع استخدام التاريخ، فهو حق للجميع، إنما المشكلة في الادعاء بأن ما نقدمه تاريخ! كل روائي من حقه أن يخرج من التاريخ، بما يصلح لبناء عالمه الفني، وأن يثريه بخياله في خدمة رسالته أو قضيته التي يُسخّر خياله الإبداعي لرعايتها، وإيصالها للآخرين عبر وسيط فني جمالي، فالمنتصرون لمصطلح الرواية التاريخية يغفلون أو يهملون أهمية هذا الإيضاح، وفي كل نقاش يستنكر تزييف وقائع التاريخ أو شخصياته في رواية -التزييف هنا قد يكون بالتحسين أو بالتشويه- تجد أحدهم وقد انبري لإيضاح أن الإبداع -بالطبع- ليس تأريخًا، وأن التاريخ مكانه الكتب المتخصصة وليس الروايات، وهو يحتج بأن القارئ عليه أن يعرف ذلك وأن يفهم هذا الفارق، فإذا سألناه فما الداعي إذن لوصف الرواية بالتاريخية؟ يقول: لأنها قامت على شخصية تاريخية أو واقعة تاريخية حقيقية مثلًا، فإذا عنّ لنا التأكد ما إذا كان كل ما ورد حول هذه الشخصية أو الواقعة ثابتاً وفق مناهج البحث في التاريخ، تأتي إجابته: هذه رواية، أما الشخصية فكانت موجودة، أو الواقعة حدثت. فإذا ما قلنا له أنت أيها الروائي تلفق التاريخ وتزيفه، مهما قلت إنه إبداع؛ فمن يضمن لك أن أجياًلا من القراء لن يتبنوا حكايتك عن الشخصية التاريخية باعتبارها حقيقة تاريخية، أو حكايتك عن حادثة مهمة بوصفها الحادثة نفسها؟ فهو أمر لا يمكن ضمانه، هل ستقوم بتوزيع إيضاح مع الرواية، يقول إن الأحداث باللون الأحمر -مثلًا- من خيال المؤلف، أما الأحداث باللون الأخضر فهي من كُتب التاريخ؟، تلجم ولم يعد يملك إجابة، لأنه واقع في أسر المصطلح «رواية تاريخية» ولم يفكر في إعادة النظر فيه.
مشاركة :