بين حب الذات والأنانية

  • 2/25/2015
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

في نقاشنا المستمر حول النمو الأخلاقي ودلالته على حال العدالة في المجتمع كان من الضروري التفريق بين حب الذات وبين الأنانية. هذا التفريق يمكن تصوّره على أكثر من مستوى هو لب هذا المقال. لكن من المهم أن نتحدث في البداية عن أهمية هذا التفريق. أولا: حب الذات سلوك طبيعي والعدالة يفترض أن لا تكون سلوكا مضادا للطبيعة. ليست الدعوى هنا أن الطبيعة خيّرة بطبعها ولا أن الإنسان خيّر بطبعه كما يخبرنا جان جاك روسو. دعوانا هنا أكثر تواضعا: الطبيعة تسمح بالعدالة. بمعنى أنه يمكن العمل ضمن الشروط الطبيعية لتحقيق العدالة. ثانيا: هذا التفريق يجعل من العدالة أقل مثالية. بمعنى أنه يجعل من السلوك العادل أمرا لا يتطلب شخصية مثالية. العدالة لا تتناقض مع حب الذات. هذه هي القضية الأهم. العدالة لا تطلب من الإنسان التضحية بنفسه بقدر ما تطلب منه الوعي بمعادلة معينة تكفل له وللآخرين أعلى مستوى من محبة الذات. هذا بالنسبة لأهمية التفريق بين حب الذات والأنانية والآن لنبدأ في فهم مضمون هذا التفريق. في المقالات السابقة أشرنا إلى هذا الملاحظة: الأنانية لا تصف سلوك الإنسان في استغلال الفرد للآخرين من أجل مصالحه الخاصة بقدر ما تصف ذلك بالإضافة إلى رفض الأناني أن يفعل به الآخرون ما يفعله بهم. العلاقة المصلحية جزء من الحياة. علاقة الإنسان بسائق التاكسي، بمحاسب السوق.. إلخ علاقات مصلحية. هذه العلاقة علاقة محدودة وضيقة لكنها في حد ذاتها ليست مشكلة. هي مشكلة في حالتين: الأولى حين تتحقق في العلاقات الأساسية في الحياة مثل علاقات الأسرة والصداقة والتعليم. ثانيا: إذا كانت غير تبادلية. بمعنى حين يطلب الفرد من الناس خدمته ولكنه ليس لديه الاستعداد لخدمتهم. هذه الصفة الثانية تقبض بشكل كبير على مضمون العلاقة الأنانية. الأناني ليس فردا منعزلا ولكنه فرد اجتماعي بعلاقات غير اجتماعية. للبحث أكثر في الطبيعة النفسية للأنانية يمكن الاستعانة بتقسيم جان جاك روسو لحب الذات الفردي amour de soi وحب الذات الاجتماعي amour proper. النوع الأول هو استجابة للطبيعة البيولوجية للإنسان في أن يعتني بنفسه أولا. هذه العناية الفردية هي شرط قدرة الإنسان على العناية بالآخرين. الطريق للآخرين يمر بالذات أولا. في الطائرة ينصح الملاحون الركاب بأن يبدأوا بوضع أقنعة الأكسجين لأنفسهم قبل صغارهم أو من حولهم. هذه النصيحة هي استجابة للطبيعة البيولوجية للإنسان باعتباره كائنا يحتاج أن يعتني بنفسه قبل العناية بالآخرين. لذا لا يبدو الطفل كائنا اجتماعيا في أطروحة روسو. الطفل مشغول بذاته وهذا جزء أساسي من نموه الكامل. لكن الطفل سيتحول إلى كائن اجتماعي كامل. إيميل (الطفل المتخيل في فلسفة روسو التربوية) سيعود للمدينة ويعيش مع الآخرين بعد أن قضى طفولته بعيدا عن المدينة مع مربيه ومعلمه. مع العودة للمدينة ومع الدخول في حمى المنافسة الاجتماعية يدخل الفرد في مرحلة حب الذات الاجتماعية أو الآمور بروبر كما يسميها روسو. هذه المرحلة من حب الذات تتجاوز حاجة الإنسان الطبيعية للعناية بنفسه إلى حاجة اجتماعية ليست بالضرورة متسقة مع الطبيعة. في المدينة المؤسسة بشكل خاطئ تتولد حاجات اجتماعية مشكلة كحب الفخر والشهرة والثناء. بحسب روسو فإن هذه المرحلة تبدأ من الحاجة الجنسية التي ينشأ عنها تنافس بين الرجال على النساء الأجمل والأكثر إثارة. هذه المنافسة تخلق مع الوقت قيما ثقافية واجتماعية تؤسس قيمة الفرد على الصراع مع الآخرين. أو تجعل من إشباع رغبات الذات الاجتماعية للفرد مرتبطا بحرمان الطرف الآخر من ذات الرغبة. في هذه الحالة تنشأ برأيي الأنانية. باعتبار أنها أولا: نابعة أساسا من حاجة اجتماعية متعلقة بالصيت الاجتماعي لا بالبقاء البيولوجي. ثانيا أنها بالضرورة مرتبطة بإلحاق أذى بالطرف الآخر الشريك في العلاقة. الأنانية في الأخير ليست نتيجة تعاقد بل نتيجة صراع لذا سيجعل روسو العقد الاجتماعي العادل طريقا لتجاوزها. الأنانية بهذا الفهم سلوك اجتماعي مرتبط بشكل كبير بطبيعة العلاقات الاجتماعية التي ينشأ داخلها الأفراد. هذا الفهم يفتح النقاش على مساحة أوسع تتجاوز التفسيرات التي تحيلها إلى الطبيعة الفردية معزولة عن الطبيعة الاجتماعية. تفسيرات من نوع "هذا الفرد أناني بطبعه" تغفل الشرط الاجتماعي للنمو الأخلاقي وهو شرط جوهري وأساسي، كما أنها تقفل الأمل في التغيير بالإحالة إلى طبيعة ثابتة لا يمك تغييرها وهذا لا يصف الواقع. النمو الأخلاقي والتحوّل من حال الأنانية إلى حالة العدالة أمر تحقق تاريخيا وفي مجتمعات مختلفة ارتفعت فيها معدلات التعاون والمشاركة الاجتماعية. أطروحة روسو السابقة مهمة لأنها تشير إلى حال الصراع الاجتماعي أو المنافسة التي يخلقها المجتمع بين الأفراد كسبب للفساد الأخلاقي. الانتقال من الأنا الفردية إلى الأنا الاجتماعية عملية معقدة ومركبة وتحتاج مزيدا من التحليل والفحص. الاحتمالات المتطرفة هنا أن تتم التضحية بالفرد من أجل المجتمع كما في الأطروحات الشمولية للتربية والاجتماع أو تربية الفرد بدون الوعي بضرورة طبيعته الاجتماعية كما في الأطروحات الأنانية للتربية. المثير للتأمل أن هذه التطرفات في التربية والاجتماع يمكن أن تؤدي إلى الأنانية في آخر الطريق. سحق الذات يجعلها ترتد بشكل عنيف، كما أن عزل الذات عن وجودها الاجتماعي يجعلها تحوم في فضاء لا تعرف طرق النجاة فيه. هذه القضية ستكون موضوع حديثنا القادم.

مشاركة :