«وكم من عائب قولًا صحيحًا.. وآفته من الفهم السقيم» هي الحقيقة التي نواجهها في حياتنا بشكل عام؛ والعلمية والأكاديمية بشكل خاص، فالنص مثلاً، لا لبس فيه ولا تعقيد ولا يدل دلالات بعيدة، لكنه الفهم المعوج السقيم الذي قاد إلى الانحراف والخطأ. فالمتهم هو الفهم لا النص، سواء كان النص وحيا أو أي نص أو قول. وكثيرًا ما نسمع هنا وهناك من يطعن في علماء السلف ويحملهم مسؤولية الأعمال الإرهابية والتخريبية التي يقوم بها داعش وإخوته في العالم. وتناسوا أن المشكلة اليوم ليست في علماء السلف ولكن المشكلة في هؤلاء الإرهابيين الذين لا يعرفون أن نقل الفتاوى من عصر إلى عصر له ضوابط وشروط كثيرة. فالفتوى تتغير بتغير الزمان تارة أو المكان تارة أو الأشخاص ثالثة. كما أنه لا يمكن نقل فتوى قيلت في قوم وحال معين لتطبق على قوم آخرين وحال آخر يناقض الأول تمامًا. ولكن ماذا نفعل مع جهلة الداعشيين وأقوامهم وأشباههم. فمن يدرس أبجديات الفقه الإسلامي التي تمنع قياس أمرين مختلفين متناقضين بمقياس واحد أو تعطيهما حكمًا واحدًا يعرف جهل هؤلاء الخوارج أصحاب الفكر الخاطئ والمنهج الضال الذين أباحوا دماء المسلمين. فالمشكلة في داعش وإخوته فساد عقولهم وقلوبهم وليس في علماء السلف. ودعونا نبين منهجية التعامل مع ما جاء به علماء السلف من فهم نصوص القرآن والسنة. فقد تباينت آراء ومواقف الناس أفرادًا وجماعات في التعامل مع فهم السلف للنصوص الشرعية على ثلاث طوائف، وهي كما يلي: الطائفة الأولى: المُفرِّطون في هذا الأمر: وهم الذين يعتبرون فهم السلف للنصوص مجرد احتمالات وظنون، وأنهم رجال وهم رجال، ولا يريدون أن يتقيدوا بأي قيدٍ عند التعامل مع النصوص، حيث لم تكن مخالفتهم للسلف مجرَّد نظريةٍ كلاميةٍ بعيدةٍ عن التطبيق؛ بل رافقها تطبيق عملي سواء في العقائد أو في الأحكام، أصولا وفروعا. الطائفة الثانية: المُفرِطون: وهم الذين يتحجرون عند حرفية الألفاظ، ويريدون أن يُنزِّلوا كلام السلف بحرفيته على كل واقعة تجد وتستحدث، بالرغم من اختلاف الوقائع والعلل وصور المسائل، ظانين بفعلهم هذا أنهم يلتزمون فهم السلف، ويتمسكون به، والحقيقة أنَّ السلف أنفسهم لما فتح الله عليهم البلاد وجدوا أنفسهم أمام حوادث لا تنتهي، وأعراف متنوعة، ومجتمعات مختلفة، وألسنة متعددة، فلم يقفوا أمام هذه النوازل والمستجدات مكتوفي الأيدي؛ بل اجتهدوا في استنباط الأحكام وسبل التعامل معها على ضوء الكتاب والسنة بما يحقق مقاصد الشريعة، إيمانًا منهم بأن الكتاب والسنة صالحان ومصلحان لكل زمانٍ ومكان، أما هؤلاء المُفرِطون فيريدون أن يغلقوا باب الاجتهاد في وجه العلماء، ويغضوا الطرف عن كل ما يستجد مما يحتاج إلى نظر العلماء واجتهادهم وقياسهم لبيان الحكم الشرعي في كل مسألةٍ تجد. الطائفة الثالثة: أهل التوسط والاعتدال: وهم الوسط بين الفريقين المتقدمين، حيث يرى هؤلاء أنَّ التزام فهم السلف هو السير على الطريقة التي سلكها السلف في محاولة علم وفقه واستنباط مراد الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من مجموع النصوص الشرعية أو أفرادها، ممَّا يتعلق بمسائل الدين العلمية والعملية، وفق ضوابط محددة، قال الشيخ محمد الحسن الشنقيطي: «اتباع السلف هو اتباع لمنهجهم في الاستنباط، وليس هو بالضرورة اتباعا لأقوالهم وآرائهم الاجتهادية». ولتتضح هذه المسألة لا بدَّ من بيان ضوابط التزام فهم السلف، وهي أولاً: أن يكون الفهم صحيحًا: وهذا ضابط مهم؛ لأننا أُمرنا باتباع أحسن ما أُنزل إلينا، ولا طاعة لمخلوقٍ في مخالفة مقصود الله ورسوله، إذا تبين لنا مخالفته ومجانبته للصواب. ثانيا: أن يكون الفهم مُجمعا عليه منهم، أو اشتهر عن أحدهم من غير مخالف له منهم: إن اعتبار الحجية في فهم السلف في المسائل التي تكلَّموا فيها يقتضي إجماعهم أو إجماع جمهورهم على تلك المسائل، وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ في اجتماع كلمة الأمة إصابة للحق، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة»، وهذا الإجماع في حقِّ علماء كلِّ عصر. ثالثًا: عدم مخالفته لحقائق المعقول: إن العقل نعمة عظيمة من نعم الله - جل وعلا - ومكْرُمة منه لبني آدم فضّلهم بها عن سائر الحيوان، غير أن هذا التكريم لا يكتمل إلَّا إذا كان العقل مهتديا بوحي الله، أمَّا إذا كان العقل مقدَّمًا على وحي الله، حاكمًا على شرع الله، فقد ضلَّ صاحبه سواء السبيل، ومن هنا وقف السلف موقفًا وسطًا تجاه العقل، فلم يغلو في تقديس العقل، وجعله الأصل لعلومهم ومعارفهم، والحَكَم المُقدَّم على النَّقل والشرائع، ولم يذمُّوا العقل ويعطّلوه،؛ بل اتخذ مسلكًا وسطًا عرف للعقل قدره، فوضعه في مكانه اللائق به من غير إفراط ولا تفريط، وقد جاء في القرآن والسنة أدلة كثيرة تُبين مكانة العقل، ووجَّهته إلى النَّظر والتفكير، والبحث والتدبر في غير آية من آيات الكتاب العزيز، فالإسلام قد رفع قيمة العقل، وأعلى من شأنه، وجعل التَّعقل والتَّفكير من طرق المعرفة، وجعل العقل مناط التكليف، ووسيلة الفهم. رابعًا: ألا يخالف فهمهم مقتضيات الواقع، ومستجدات العصر: فإن من الفقه الحسن التمييز بين الأهداف الثابتة التي تسعى الشريعة لتحقيقها، وبين الوسائل الآنية والبيئة التي تُحدِّدها للوصول إلى الهدف المنشود، والدارس المتعمق في النصوص يتبيَّن له أنَّ المهم هو الهدف، وهو الثابت والدائم، والوسائل والمستجدات قد تتغير بتغير البيئة أو العصر أو العرف أو غير ذلك من المؤثِّرات. لقد ظُلم علماء السلف بعد وفاتهم من طرف بعض الجماعات التكفيريّة التي تستدل بكلامهم في تبرير غلوها في التكفير، تقابلها جماعات أخرى، تستدلّ هي الأخرى بتراث وفتاوى بعض علماء السلف، في تبرير بعض الفتاوى الشاذة التي أباحت الكثير من المحرمات؛ ما يدل على أن المشكلة ليست في فتاوى وتراث علماء السلف إنّما في تأويلها واستغلالها وتوظيفها. وتولي مملكة البحرين أهمية كبيرة للنهوض بالوعي الديني لدى الشباب البحريني من خلال الهيئات والمراكز المدعومة من الدولة مثل مركز عيسى الثقافي وهيئة البحرين للثقافة التي تقوم بعقد الورش واللقاءات بين الشباب لغرس القيم الإسلامية الصحيحة والفهم الصائب لجوهر الدين ووضع الشباب على الطريق الصحيح لتجنب وقوعهم في وحل الفئات الضالة من التكفيريين والخوارج. فقد أولى جلالة الملك المفدى حمد بن عيسى آل خليفة أهمية قصوى للمبادرات الوطنية التي تهدف إلى تعزيز الانتماء الوطني وترسيخ قيم الوطنية، والقضاء على النهج التحريضي، ودعم الهيئات الدينية الشرعية ومراكز الدراسات، بهدف رصد الأسباب الفكرية والاجتماعية المتعلقة باجتذاب الشباب للتنظيمات الإرهابية والانخراط فيها، ووضع الحلول المناسبة لمعالجة هذه الأسباب. { أكاديمي متخصص في العلوم الشرعية وتنمية الموارد البشرية Dr.MohamedFaris@yahoo.com
مشاركة :