تكاثر استعمال كلمة تسامح في المشهد الثقافي الفرنسي والأوروبي، بعد الأحداث الأخيرة ضد صحيفة شارلي إبدو. ظاهر كلمة تسامح يرتكز على رغبة حقيقية في جعل أفراد المجتمع يقبلون بعضهم البعض كما هم، لا كما يريدهم الآخرون. ولا غرابة في أن تبدو كلمة تسامح في معناها العام حاملة لقيمة إنسانية متسامية، ولكن متعالية أيضًا، أي أن يترك الإنسان بعضًا من حقه الأساس لحساب ربح قلب الآخر المختلف، فيتسامح معه وكأنّ الاختلاف خطأ أصلاً يجب التسامح معه. الأمر الذي يعطي الإحساس بأن هناك طرفًا يبذل جهدًا في تقبل الآخر، وقبول ثقافته، ودينه، ومجمل خصوصياته. إذا تمعّنا كلمة تسامح قليلاً ستبدو مثار تساؤل كبير، لأنها تتبطن شيئًا يصعب قبوله. أن هناك شخصين في المشهد، واحد يملك السلطان والقوة والقرار، وحق قبول الآخر المختلف أو رفضه، وآخر مجرد من كل شيء، ومستضعف. بمعنى أن كلمة تسامح على الرغم من إيجابيتها تتبطن معنى سلبيًّا إذ تفترض منذ البداية قويًّا وضعيفًا. الأول أصلي، ويملك مواطنة كاملة، والثاني فرعي ومواطنته منقوصة، حتى ولو وُلد وتربّى في الوطن نفسه، بل حتى ولو كان من عائلة عربية مثلاً وفدت منذ أكثر من قرن. كان ألبير كامو يقول: إني آخر ومختلف وغريب بالنسبة لفرنسي المتروبول، بسبب جذوري الإسبانية. ومع العربي، فأنا الأجنبي والفرنسي. مع أنه في المجتمعات المتعددة الأعراق والديانات والثقافات، يظل قبول الاختلاف ضرورة للسلم المدني. إذ إن الخصوصية جزء من الثقافة والمواطنة المتعددة، تُقبل ولا يُتسامح معها كأنها جسم غريب. كيف يتسامح مع شيء هو جزء مجتمعي. عندما كتب فولتير كتابه حول قضية عائلة كالاس، حول اللاتسامح، سماه عن قصد بحث في التسامح Traité sur la tolérance، مع أن الأمر يتعلق في جرائم اللاتسامح. كيف كان على المجتمع الفرنسي أن يكون قابلاً لا متسامحًا لخيارات عائلة كالاس البروتستانتية المتهمة بقتل ابنها الذي مال نحو الكاثوليكية. هذا اللاتسامح الأعمى ورفض الاستماع إلى الضحية كان سببًا في إعدام كالاس الأب بتهمة قتله لابنه، الذي بيّنت التحقيقات أنه كان هشًّا نفسيًّا، وأنه شنق نفسه. ولم يقتله والده بحجة تنصله من البروتستانتية، وانتسابه إلى الكاثوليكية. اللاتسامح معناه في هذا السياق، إقصاء لكل إمكانية لتأمُّل الآخر المختلف. مجتمعاتنا الحديثة لا تحتاج إلى تسامح، ولكن إلى تربية تقبل المختلف كما هو، وتغيير المصطلحية واللغة غير العادلة. على الأوروبي مثلاً ذي الأغلبية المسيحية أن يقبل مجتمعه بأجزائه الدينية الأخرى، ككيانات مستقلة لا أن يتسامح معها. الأوروبي المسلم مثلاً، أو الأوروبي البوذي، أو الأوروبي العلماني لا يحتاج إلى أن يبرر قناعاته، ولا أن يُتسامح معه، ولكن أن يُقبل كما هو، وفق القوانين والدساتير التي تقوم على فعل المساواة بين الأفراد والقناعات. لا يوجد أوروبي في رتبة عالية، يتسامح، ولا أوروبي في رتبة دنيا موضوع التسامح. يوجد أوروبيون متساوون أمام قانون واحد، وإلاّ سيصبح من الصعب فصل التسامح عن العنصرية تحديدًا. الأهم هي المواطنة بمعناها الأكثر نبلاً، والانصياع لضوابط العدالة والقانون. السؤال المطروح اليوم على أوروبا، هل هناك جهد حقيقي للوصول إلى فهم الشريك في الوطن والمواطنة، على أساس أنه هو أيضًا أوروبي ولكن بمكونات ثقافية ودينية مختلفة؟
مشاركة :