في مكة المكرمة تحتضن منظمة العالم الإسلامي مؤتمرا دوليا تحت عنوان "الإسلام ومكافحة الإرهاب"، دُعي إليه عدد كبير جدا من العلماء من مختلف أنحاء العالم، لمناقشة السبل المساعدة على اجتثاث مد الفكر الإرهابي الذي بات يشكل الشغل الشاغل لنا كمسلمين وللعالم من حولنا أيضا. لكن لماذا عنوان "الإسلام ومكافحة الإرهاب"؟ وما الذي أوصلنا إلى أن نسارع إلى تحسين صورته ونفي تهمة الإرهاب عنه؟ وما أهم المشكلات الرئيسة المنتجة للإرهاب وفكره؟ من الواضح على هذا الجانب أننا أمام حزمة مختلفة من المهام، التي يجب علينا إنجازها على هذا الطريق قبل محاولة إقناع العالم بما يحمله الإسلام من نظرة مختلفة للحياة والآخر المختلف. ولتحقيق ذلك أظننا في حاجة ماسة إلى إدراك أن مشكلتنا مع فكر الجماعات الإرهابية المتطرفة، إنما تكمن في اجترارهم لفقه إسلامي عتيق فيما يُعنى بالجهاد والدعوة إلى الإسلام ورؤية العالم من حولهم، وإسقاط مخرجاته -التي جاءت نتيجة اجتهادات متوافقة مع لحظة تاريخية ما- على وقتنا الحاضر، دون تقدير فقهي فاحص للثوابت والمتغيرات! وهو ما أضر كثيرا بصورة الإسلام وتوجهاته عند كثير من الأمم الأخرى، وعكس صورة غير صحيحة عنه. ولنا اليوم أحقية أن يكون لنا فقهنا الموازي، الذي يقرأ واقعنا ويضعنا فعلا في الصورة الحقيقية لروح الإسلام. ولا أعلم لماذا يتم تحجيم الفكر الإسلامي، وإنكار مقدرة علماء المسلمين اليوم على تجديد الفقه ليوائم عصرنا الحاضر، مع أننا في وضع معلوماتي أفضل بكثير مما كانت عليه الأمم السابقة، فقد فعل السابقون ذلك في أزمنتهم باستمرار، وحققوا في الكتب والموروث، وقرروا ما يجب أن تكون عليه حياتهم، وحاجتنا اليوم إلى ذلك تبدو جلية وملحة، لمواكبة كم المتغيرات الهائلة والمتسارعة التي طرأت على مسيرة الإنسان وسيل المنجزات العلمية، والمدارس الفكرية في القرنين الأخيرين. وبما أن الفقه هو الفهم والمعرفة، وبشكل أقرب، هو العلم الذي يبحث لكل عمل عن حكمه الشرعي، فإن ذلك يؤيد أن يكون لنا فقهنا الجديد المعبر فعليا عن حضورنا كأمة تعيش القرن الحادي والعشرين. المشكلة الأخرى من حزمة المشكلات التي أظن أنها تقف عقبة قوية في وجه التغيير الفعلي، هي أن عقد مثل هذه المؤتمرات دون تطبيق التوصيات الناتجة عنها التي تبقى مرهونة بمزاجية السياسيين وتعقيداتهم، تظل من أقوى المواجهات على طريق الانعتاق من بطش الفكر الإرهابي المنحرف. فالواضح أن التحركات على الجانب السياسي تطغى دائما على التحركات باتجاه العمل الاجتماعي، وبناء الإنسان فكريا وثقافيا واقتصاديا، وضرورات محاربة الفقر والفساد والتضييق الفكري والاجتماعي. وهذا من وجهة نظري حد كثيرا من قدرة تأثير تلك التوصيات التي تخرج عن المؤتمرات الدولية، لأن الهاجس الأمني مسيطر على العقلية السياسية في المنطقة عموما. وعلى جانب آخر، لا يجب أن تسيطر على العالم قوى بعينها، تفرض شروطها وتقدم مصالحها متلاعبة بمصائر الأمم والشعوب الأخرى، فهذا أيضا أحد أهم أسباب ظهور الإرهاب بأشكاله المختلفة، فالإرهاب لا دين له أو جنسية أو منطقة جغرافية محددة. ويبقى غموض الاتفاق بشأن تعريف محدد للإرهاب يتوافق عليه جميع المشاركين في هذه المؤتمرات، عائقا أمام الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب. ولقد كان مؤتمر حوار الأديان الذي عقد في الشهر السابع من عام 2008، خطوة كبيرة للعالم الإسلامي نحو بناء فكر إسلامي ومجتمعي أكثر وعيا، يعيد التأكيد على إحياء فقه التعايش الإنساني وقبول الآخر، ونقطة انطلاق لتكوين ذلك الفقه الجديد، الذي يتأمل في المرحلة ومتطلباتها، وأهمية أن نكون فيها فاعلين على مستوى الحياة الإنسانية، فمواجهة الإرهاب وفكره هي ضرورة أخلاقية وثقافية وإنسانية قبل أن تكون ضرورة شرعية ومطلبا إسلاميا، لنخرج معا من فقه الإرهاب إلى فقه الحياة. فإما أن نواجه مشكلاتنا بجدية وإصرار على التغيير، أو نغمض أعيننا ونستمر في الدوران داخل الحلقة المفرغة.
مشاركة :