النقد كما أن له مدارسه ومناهجه، كذلك له دوافعه وأغراضه التي تؤثر في توجيه تلك المناهج!ولقد توسع المفكرون والباحثون أخيراً في موضوع أثر (تحيزات) الباحثين لبيئاتهم وثقافاتهم وعقائدهم وتربيتهم وتعصباتهم على نتائج دراساتهم وبحوثهم.بل امتد الأمر ليصل أثر التحيز، الذي يبدو ظاهراً في العلوم الاجتماعية والدراسات التاريخية والنقد الأدبي والتفسيرات الدينية، إلى صلب العلوم الطبيعية البحتة والخالصة كالأحياء و الفيزياء والفلك وغيرها، ولعل المقولة التي ورثها القرن التاسع عشر للباحثين وتعاطى معها المثقف العربي والغربي على السواء بأن العلم الطبيعي موضعي ومحايد ولا دخل للذات والأهواء بنتائجه، ذلك لأنه علم وظيفي تطبيقي يفرض نتائجه على العقل. هذه المقولة صحيحة من جهة (العلم) ولكن من قال إن (العالم) الذي يشتغل في العلوم الطبيعية محايد؟!لهذا تراجعت هذه الأطروحة عملياً في الواقع وفلسفياً في تنظيرات ومقررات العلماء أنفسهم.وقد ساهم مركز (رواسخ) بلفت الانتباه لهذا الخلل في التفكير (التحيز)، الذي ينعكس على التعبير والتدبير، وذلك من خلال ترجمة وطبع كتاب «البيولوجيا عندما تصبح أيديولوجيا... عقيدة الحمض النووي» تأليف العالم ريتشارد ليفونتين والذي كتبت مقدمته.كما أن المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن أصدر قرابة عشرة أجزاء من كتاب تحت عنوان (إشكالية التحيز... رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد)، كل مجلد يتحدث عن محور من محاور التحيز، مجلد عن التحيز في الفن والعمارة، ومجلد عن التحيز في العلوم الاجتماعية ومجلد عن التحيز في علم النفس والتعليم والاتصال الجماهيري...والأهم من كل ما سبق مجلد التحيز في العلوم الطبيعية!ولقد شارك في هذه الموسوعة المهمة قرابة 45 مفكراً وعالماً في شتى الاختصاصات.وقد أشرف عليها وشارك فيها الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه الله.وكم أعجبني الدكتور محجوب عبيد البروفيسور الفيزيائي السوداني المرموق في بحثه عن التحيز في الفيزياء، عندما تطرق إلى تحيز العالم في صياغاته التعبيرية عن القانون العلمي، وضرب على ذلك مثلاً بقانون حفظ الطاقة في الفيزياء «الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من العدم».كما أن الدكتور عمرو شريف في كتابه (خرافة الإلحاد) في الفصل الثاني، تطرق لهذه الآفة الباطنية تحت عنوان (العلماء بين الحيادية والموضوعية)، وذكر شهادات واعترافات العلماء أنفسهم على تحيزاتهم العلمية!ولعلك تتساءل ما دخل هذه المقدمة التنظيرية عن التحيز بعنوان المقال الذي يشير إلى أحد رموز القرن العشرين في التفاني الإنساني والجهاد في الانتصار والعون للمنكوبين في الأرض، بسيرة يصعب وصفها شهد له فيها العدو والصديق المخالف والموافق الغربي والعربي.المقدمة التنظيرية كانت عن إثبات أثر فكرة التحيز بدرجاته الذي يتدرج إلى تعصب لينتهي بالعنصرية، هذا التحيز إذا كان له أثر - حتى عند علماء الطبيعيات في نتائج علومهم المادية البحتة - فكيف ببقية العلوم الإنسانية والفنية ثم ما مدى ذلك التحيز الظالم، إذا وصلنا عالم السياسة والصراعات الفكرية الحادة؟قطعاً سيكون التحيز قميئاً ووقحاً، وهذا ما تبين قبل يومين في تغريدة لمخلوق نكرة أراد أن يركب سلم الشهرة بالانتقاص من الدكتور عبدالرحمن السميط رحمه الله تعالى، فذهل الناس من سوء أدب هذا الدعي وثاروا دفاعاً عن تلك القامة الدينية والإغاثية الإنسانية نادرة الوجود.وأقول إن أمثال هؤلاء يصدق عليهم وصف (الباحثون في القمامة)، وهو عنوان لأحد فصول كتاب (تزييف الوعي) للكاتب فهمي هويدي.يتحدث فيه عن هؤلاء الذين يفتشون في التاريخ عن المثالب فقط، ويجعلونها معياراً للحكم على من يستهدفونه. مع إغفال النجاحات والجهاد الخيري أو الإنساني أو الدعوي أو العلمي أو في أي حقل كان. ثم تسليط الأضواء على خلل هنا وقصور هناك وإبرازها وإشاعتها وتضخيمها، والحكم على الناس من خلالها، فإن هذا هو منهج تتبع السقطات والباحثين في القمامة... نفسيات تحتاج إلى مصحات نفسية لا إلى حوار وهي تختار السقوط ذاتيا.وأختم كلامي بآخر لقاء كان بيني وبين عبدالرحمن السميط - رحمه الله - في منزله وبحضور ابنه عبد الله الذي يسير على خطى والده.قال السميط: كنت أحرص أن يكون عمالي في النشاط الإغاثي من غير المسلمين، وثنيون أو نصارى هذا حارس مخزن وهذا سائق شاحنة وذاك مصلح... ولم أقل لهم يوماً ما أسلموا، ولكن كل الذين عملوا معي أسلموا بعد حين.قلت: ما السبب يا دكتور، قال: العدل والرحمة والمعاملة الحسنة، ورأونا كيف أننا في الاغاثة لا نفرق بين دين وآخر فنوزع الإغاثات بالتساوي على المسلمين وغيرهم في القرى الفقيرة و المنكوبة.إن سيرة عبدالرحمن السميط وعطاءه الكبير وأبوته الإنسانية، تفضح كل من يتطاول عليها وتلجم كل كاذب أفاق.@mh_awadi
مشاركة :