تهيئة التعليم الفني والمهني لمتطلبات الثورة الصناعية الرابعة

  • 3/6/2019
  • 00:00
  • 20
  • 0
  • 0
news-picture

شهد قطاع التعليم الفني المهني (الصناعي) منذ باكورة انطلاقته عام 1936 في مدرسة الهداية الخليفية والغربية بالمنامة حتى يومنا هذا تطورات جوهرية ومرونة نوعية لاستيفاء متطلبات التنمية وسوق العمل في مملكتنا الغالية. فمن صفوف تعليم النجارة والميكانيكا مرورا باعتماد نظام التعليم الصناعي عام 1947 وافتتاح مدرسة جدحفص الثانوية الصناعية عام 1969 تلتها، بحسب التسلسل الزمني، مدرسة المحرق الثانوية الصناعية، والجابرية والشيخ عبدالله بن عيسى ومعهد الشيخ خليفة للتكنولوجيا، ومراحل تطويرية في نظام التعليم الصناعي ذاته كنظام الحلقات التأهيلية والنظام الحالي بشقيه الفني والمهني أو التطبيقي. رغم تميز مخرجات التعليم الصناعي ومواكبة حاجات سوق العمل خلال هذه الحقبة، إلا أنه أصبح من الضروري تطعميه بما يلبي حاجات القطاع الصناعي الرقمي ولا سيما في عصر الثورة الصناعية الرابعة التي بدأت ونعيش تفاصيلها كل يوم. تتميز الثورة الصناعية الرابعة بقدرتها على دمج العالمين الرقمي والبيولوجي بصورة غير مسبوقة ومن المتوقع أن تضفي بظلالها على مختلف الصناعات والذي يستدعي بدوره عملية تأهيل نوعية للقوى العاملة المقبلة على هذه التغيرات الصناعية الفريدة. البروفيسور كلاوس شواب -المؤسس والرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) في كتابه الشهير (الثورة الصناعية الرابعة) أكد أن ملامح هذه الثورة ستؤثر على طريقة معيشتنا وعملنا وأن كافة شرائح المجتمع مطالبة بأن تستعد لمواجهة هذه التغيرات الهائلة والتي بدأت وستستمر شئنا أم أبينا. رغم الطرح الشمولي للتحديات وآثار الثورة الصناعية الرابعة في كتاب البروفيسور كلاوس إلا أن النقطة التي أود التركيز عليها هنا هي الحاجة إلى تأهيل مخرجات التعليم الفني والمهني في مرحلة مبكرة لهذه الطفرة التقنية وعدم إرجائها إلى مرحلة التعليم الجامعي والتي هي الأخرى تمر حاليا بمرحلة مخاض لاستيعاب متطلبات الثورة الصناعية الرابعة، إذ بدأ العمل فعليا على مراجعة برامجها الحالية واستحداث أخرى جديدة لتضييق الفجوة الحالية. مقالات عديدة يمكن الوصول إليها بسهولة عن طريق محرك البحث جوجل تتحدث عن عدد الموظفين الذين سيجبرون على ترك وظائفهم لأن الذكاء الاصطناعي (وهو أحد محركات الثورة الصناعية الرابعة) وصل إلى مراحل متقدمة، من خلال الروبوتات الموجهة وأجهزة الاستشعار والتحكم الذكية، وقد تكون بديلا مفضلا لأصحاب الأعمال مقارنة بالقوى العاملة البشرية. فريق آخر يعزي سبب ترك الوظائف إلى قصور التأهيل الفني والتقني ومدى ملاءمته ومتطلبات سوق العمل المستقبلية. وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا فعلنا لنخفف من وطأة المشاكل المتوقعة لتبعات الثورة الصناعية الرابعة والتي يكاد يُجمع الجميع أنها ستحصل لا محالة؟ ما هي الخطط الاستراتيجية التي تكفل التحول التدريجي للنموذج الفني التقني الحالي المطبق في نظام التعليم الصناعي لاستيعاب المتطلبات والمهارات التأهيلية للمنشآت الصناعية الذكية المستقبلية. خلال مشاركتي لفعاليات المؤتمر والمعرض الدولي الأول، والذي أقيم برعاية كريمة من لدن معالي وزير النفط، حول الثورة الصناعية الرابعة تحت شعار (التحولات وقدرات دول مجلس التعاون في مواجهة المتغيرات الصناعية)، وذلك خلال الفترة 5-7 فبراير المنصرم في البحرين، تطرقت العديد من الأوراق العلمية المطروحة إلى الدور المتوقع والجوهري للتعليم بمراحله المختلفة لتحقيق الأهداف المرجوة من تقنيات الثورة الصناعية الرابعة. فبينما ركز مطورو التقنيات والشركات المسوقة لها على أن الثورة الصناعية الرابعة تتمثل في اقتناء آخر صيحات التكنولوجيات الحديثة، أكدت الشركات التحويلية المنتجة، من خلال عرض مراحل تجاربها الرائدة محليا في تبني أفكار الثورة الصناعية الرابعة كشركة نفط البحرين الوطنية (بابكو) وشركة بحرين فايبر جلاس (BFG)، على مسألة التفاعل البشري مع محركات الثورة الصناعية الرابعة واعتبرته حجر الزاوية في عملية الولوج السلس في عصر الثورة الصناعية الرابعة وتحقيق أهدافها. تتمحور الثورة الصناعية الرابعة حول عملية الدمج الحسية-الرقمية-البيولوجية من خلال التقنيات المختلفة كالذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء وتحليل البيانات الضخمة وغيرها نت التكنولوجيات الحديثة في سبيل تحقيق قيمة مضافة على طول سلسلة الإنتاج بغض النظر عن نوع الصناعة (تحويلية أو لوجستية أو مالية). هذا التداخل الفريد وغير المسبوق يستدعي التأهيل النوعي المبكر للتعاطي معه والأهم من هذا في نظري أن يكون هذا التأهيل في إطار متناسق ومكمل للنظام الحالي، يستوعب الفجوة الحالية ويعمل على تضييقها بشكل تدرجي محققا على المدى المتوسط والبعيد الغاية من الثورة الصناعية الرابعة في تحقيق قيمة مضافة لطريقة القيام بأعمالنا تترجم في النهاية إلى نمو اقتصادي ملموس. عملية التدرج تتطلب البدء في تطبيق هذه السياسات التعليمية المتوائمة مع احتياجات الثورة الصناعية الرابعة في مرحلة مبكرة. على سبيل المثال، إحدى حلقات النقاش في منتدى أسبار الدولي بنسخته الثانية، تحت عنوان (الإبداع والابتكار في سياق اقتصاد المعرفة والثورة الصناعية الرابعة 2017) المنعقدة بالرياض في المملكة العربية السعودية، سلطت الضوء على بعض الممارسات التعليمية في هذا السياق كالدعوة إلى تعلم كتابة الأكواد البرمجية في سن مبكرة (Coding)، إذ يميل بعض المتخصصين في محركات عصر الثورة الصناعية الرابعة إلى تقديم الأمية على أنها عدم القدرة على كتابة الأكواد. بعض المتخصصين في الذكاء الاصطناعي يرى أن هذا التوجه خطير وغير مجدي بشكله المجرد، كأن يحاول أحدهم أن يعلم الآخر كيف يصبح رساما وبعدها يقضي جل وقته في شرح له ما هو القلم الذي سيرسم به، والمادة المصنوعة منه، والشركة المصنعة له والألوان والأنواع المتوافرة منه، وقد يفوته في هذه المسيرة التعليمية أن يتطرق إلى فن الرسم ذاته. يمكن إسقاط هذا المثال على كتابة الأكواد. فالأهم من تعلم كتابة الأكواد هو أن يصبح لديك القدرة على حل المشاكل بشكل حسابي برمجي (computational thinking) وهذا ما قصدته سابقا أن الأداة مهمة ولكن الأهم هو السياق أو الإطار. التعليم الفني والمهني، وليس بمنأى عنه التعليم الهندسي الجامعي، يفتقد لهذه النظرة الشمولية في طرح سياسة تعليمية فنية مهنية تتسق مع متطلبات الثورة الصناعية الرابعة. ثقافة الدمج-الحسية-البيولوجية وإدراكها بالشكل الصحيح تتجاوز مرحلة اقتناء التقنيات والتدرب عليها، بل هي ثقافة وممارسة وأسلوب تعامل مع المشكلات بشكل غير تقليدي، والجدير في اعتقادي أن تبدأ مرحلة التأهيل هذه في مرحلة مبكرة قبيل التعليم الجامعي وربما كان التعليم الفني والمهني بمرونته المعهودة منذ بدء التعليم الصناعي في البحرين بيئة خصبة لاستشراف هذه الممارسات التعليمية الجديدة والتي ستصب في تأهيل جيل صناعي متوائم ومتطلبات حاجة سوق العمل في عصر الثورة الصناعية الرابعة.

مشاركة :