سيرة أميركية وانفتحت: «غميضة» البر والبحر

  • 3/7/2019
  • 00:00
  • 41
  • 0
  • 0
news-picture

أميركا مجتمعة تعلن بأنها ستكتفي بلقب قوة عظمى وليس «هايبر» عظمى (قوة قصوى عظمى)، وأن «إنفلاشها» العسكري خارج أراضيها سيعاد رسمه تبعاً لخريطة نفوذ جديدة تتناسق واللقب الجديد (القديم لبلاد العم سام). وبمعزل عن التوقيت أولاً، والمناورات التي قد تستوجب تعديل بعض الخطط ثانياً، ثمة تقدير بأن الانسحاب العسكري الأميركي من شمال سورية صار شبه محسوم بعد موافقة الرئيس دونالد ترامب على بقاء قوة رمزية قوامها 200 ضابط وجندي، وبالتالي نحن نعيش مرحلة الترتيبات السياسية والعسكرية والأمنية تمهيداً لمثل هذا الانسحاب. وبات شبه محسوم أيضاً أن هذا الانسحاب الذي سيرافقه انسحاب أميركي من أفغانستان والعراق له حسابات تتعلق بواشنطن أكثر مما له علاقة بمصير النظام العالمي المتهافت الذي نشأ بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق. تبدو وجهة إدارة ترامب حاسمة بالخروج من ميادين الصراعات إلى أساطيلها في المحيطات وترسانتها الفضائية، مراقبة ومترقبة، لتوكل شؤون إدارة كل إقليم لوكلاء محليين أو شركاء دوليين. هذه سيرة أميركية يمكن تتبعها منذ الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا. من التدخل في الحرب الكورية ومن بعدها الفيتنامية ثم الخليجية (حرب تحرير الكويت) والأفغانية والعراقية والسورية. سيرة اتقنت فيها واشنطن لعبة «الغميضة السياسية»؛ فالسياسة «الجيفرسونية»، نسبة إلى الرئيس توماس جيفرسون أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية، تعرف كيف تخبئ حدود امبراطوريتها على حد تعبير الكاتب الأميركي دانيال أميروير. في هذه الدورة تحديدا، تجد واشنطن نفسها في موقف معاكس لما مضى من دورات القرن الماضي، تقف في مواجهة أخصام لديهم ما يكفي من خبرة في المناورة السياسية، راكموها على مدى عقود وفي محطات تاريخية مفصلية، أنموذج روسيا والمستنقع الأفغاني، إيران وكأس السم العراقية، سورية واليمن ولعبة الأقليات، فضلا عن تنسيق محوري متكامل بحيث يجيد معه اللاعبون الاختباء والظهور، الدفاع والهجوم، حتى أن الحلفاء التقليديين لواشنطن في حلف الناتو، خصوصا تركيا، يجدون صعوبة في تكهن مآلات الانسحاب الأميركي في هذه الدورة، وماهية تأثيرها على أمنهم واقتصادهم ومستقبل كياناتهم. أما الدول الأوروبية الباحثة عن قاموس جديد للغة المصالح بينها وبين إدارة ترامب، فإنها تحاول جاهدة فك «شيفرة» العلاقة غير المألوفة بين بوتين حاكم موسكو وترامب سيد واشنطن. عمليا، يقف الأوروبيون أسرى خلف ضفاف البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلنطي بفعل الفراغ السياسي الذي يلف قارتهم. هم يستنجدون واشنطن أن تملأ هذا الفراغ القاتل، ولا يجدون إلا صدى لصراخهم. وبينما تنهمك قوات «العم سام» في عملية سحب عتادها وعديدها من ميادين المنطقة، لا بد من بديل أو بدائل تحت عنوان «ملء الفراغ والتقاط الفرصة»، بالتالي سنجد معادلات جديدة فيها رابحون وخاسرون، وبين هذا وذاك، منظومة جديدة لا أحد يستطيع التكهن منذ الآن بتوازناتها ومكوناتها وعناصر قوتها أو ضعفها. وكما في الطبيعة لا مكان للفراغ، كذلك في العلاقات والتوازنات الدولية. تكون مسؤولية ملء هذا الفراغ عملية شراكة بين القوات المنسحبة وتلك التي تحل محلها، محلية كانت أم أجنبية. في هكذا شراكات، يعاد توزيع الأدوار تحت سقف سياسي متفق عليه، ثم يدعم ويحصن هذا السقف برزمة اتفاقات إما معلنة أو سرية، لتبدأ بعدها مرحلة سياسية جديدة، لا بد وأن تفرز تدريجيا قادة ووجوها وشركات ورجال أعمال. ومن أجل قراءة المستقبل أو محاولة فهمه، لا بد من متابعة الأثمان السياسية التي سيقبضها كل طرف إقليمي أو دولي لحظة الانسحاب. فالصرف على الصراعات طول الفترة الماضية وتحديدا منذ الاحتلال الأميركي للعراق في العام ٢٠٠٣م استنزف خزائن الدول مالياً واستراتيجياً وبشرياً. ولنأخذ تركيا مثالاً، قبل غيرها. صار دفن الحلم الكردي بالاستقلال أو الحكم الذاتي ثمناً مقبولاً بالحد الأدنى للأمن القومي التركي. التهديد بالفوضى عند حدود جمهورية أردوغان الجنوبية يكاد يكون كافياً لإثارة الرعب في قلب أنقرة. ببساطة، ليس أجمل من أن يطالب الشعب السوري في درعا ودمشق وحمص وحلب بالتغيير، لكن حين يطالب الكرد السوريون بالحرية والإستقلال، يصبح الأمر بمثابة «مسّ» بالمحظورات. إيران قصتها أكثر تعقيداً، لا يمكن لأي متابع إلا الجزم بأن النفوذ السياسي الإيراني اليوم يضاهي نفوذ بلاد فارس منذ حكم كسرى فارس وشاه إيران وعهد الإمام الخميني مجتمعين، فما حققته طهران طوال سني الصراع في المنطقة يجعلها في موقف الدفاع عن نفوذها وليس التوسع. بمعنى آخر، ستمارس طهران أكبر جهد بأقل ثمن، ما يجعلها تبحث عن إدارة صفقة كثمن، بدل أن تقبض ثمن صفقة الفراغ المزعوم. في سورية المأزومة منذ ثماني سنوات، أوكلت إلى روسيا مهمة تنظيم العلاقة، في الحرب كما في السلم، بين النظام ومعارضيه وأعدائه وأخصامه ولربما حلفائه. تقبض دمشق بجيشها على أغلى ما تملك «الأرض». معادلة ليس لبنان بعيدا عنها، بما يعنيه من امتداد استراتيجي لبر الشام بغض النظر عمن يحكم دمشق. وعليه، لكل المطالبين بالسيادة والحرية والاستقلال في بيروت أن يتذكروا أنه في زمن الحرب تقاتل الآخرون على أرضكم، وفي السلم كنتم ثمناً لجاركم! أما المحتل الإسرائيلي فيواجه معضلة وجودية، دولة بقوة عسكرية متفوقة بلا قدرة على توظيفها، تواجه حرباً غير مألوفة مع أحزاب وميليشيات وليس جيوشاً نظامية، فائض القوة الصهيونية أصبح متعارضاً مع مصالح دولية غربية، إضافة إلى غياب القيادات فيها، وأصبحت حالة «اللا حرب» و«اللا السلم» أفضل سياسة إلى حين تبدل الأدوار. فوق كل ذلك وبينه، تطمح روسيا لأن تتربع على عرش الوصاية في نظام شرق أوسطي جديد، في حين تخبئ أميركا نفوذها في البحر على أساطيلها المتربصة، في انتظار أن تنزل إلى البر مرة جديدة في المستقبل كسالف دوراتها الطبيعية. في الخلاصة، أميركا قررت. نعم، أميركا مجتمعة، بمؤسساتها ورئيسها غير المؤسساتي الذي جاء من خارج الإستابلشمنت، قررت الانسحاب من البر إلى البحر، ضمن معادلة إبراز القوة من دون الحاجة إلى استخدامها، معلنة بأعلى صوتها «لكم عندي شيء تعالوا خذوه» كما المثل الدارج عند أهل الخليج العربي. وعلى رغم كل الضجيج الإعلامي أو السياسي حول الافتقاد لأي تنسيق أو تناغم بين البيت الأبيض والبنتاغون، هذه هي الدورة السياسية الأميركية ذاتها كل عقدين من الزمن تقريبا، تتدخل عسكرياً في البر لتنسحب بعدها إلى البحر. * كاتب سعودي.

مشاركة :