القصيدة هي الجذوة الوحيدة، التي تسري في عروق الكلمات كما الماء أو النار: خصيبة أو مشتعلة. هكذا يبدو الشعر عندما يترجل الشاعر السعودي عبدالله المحسن عن ظهره كخطأ كوني، ثم يغوص في أعماق الظلام استنارة ويستحم بالنور عتمة. نحن أمام حقيقة لا مناص منها، وهي أن الشاعر لا يكتب غير حقيقته الذاتية المجترحة من نيران السلالة التي اتخذت الأحلام حطاما للخطيئة. ما بين الطفل والغواية ولعنة المجاز تنمو نبتة الشعر ممسكة بتلابيب العزلة. ينمو الشعر وحيدا تربته الطفولة وماؤه الدهشة والقصيدة والهزيمة. «بحميمية مع ذاتي بعد كل هزيمة أمشي في عروقي دم يفور لا شيء يشع مني غير النبض في قلبي وهو الذي كطرق أبدي يثبت خساراتي». لا يرافق الشاعر في نزهته الجنائزية غير المجاز الذي يختزل التجربة الشاخصة أمامنا «جثة هامدة كحقيقة» تارة وكالشجرة تارة أخرى تقاوم الفأس. وما بين الموت والحياة يتجلى الشاعر طيفا وضوءا وذكرى بعيدة. ديوان الشاعر عبدالله المحسن ديوان الأحلام والرؤى والهزيمة. فلا بد أن نصادف في غرفه حروبا تحت الجلد تضرم النار في الأصابع والأظافر والظهر والرأس: «من كل هذا الصراخ الذي يملؤك تخرج من تحت أظافرك وتتألم من نبش الأسلاف لجثتك». وسط غابة الأبدية هذه تتعرى الحقيقة شيئا فشيئا، وكأنها تنتزع نزعا من عناصرها التكوينية. منذ البدء نكتشف أن الحقيقة ليست ظلا ولا نورا هي مجرد أمل بين خوف في العراء وإقامة في الجسد. الجسد الأبدي الأصل والفصل والنصل المتمدد بالإلهام والشوق والمتجدد كما الحلم والبحر. «كيف ستتخلص الآن مني؟ سأكون في المرة القادمة شجرة تحتاج أن تصنع من أحشائي فأسا» الرغبة في التحول نزعة ملازمة للشاعر وكأن الروح بلا جسد تتنقل بين العناصر كلها. الرغبة نفسها تتجلى حلما يخيط بين الكلمات والاستعارات بين الأشياء والأمكنة. تارة تتمثل الأسلاف وترتدي جلودهم وأحلامهم وتارة أخرى تحاسبهم وتعاقبهم وتمحي أثرهم. لم يكن ديوان عبدالله المحسن الخطوة الأولى، ولكنه البداية المثلى لشاعر موهوب سيكون له شأن أدبي كبير في المستقبل إن صان موهبته ورعاها كشجرة منيعة تضرب جذورها في الأصول وتتفرع بحرية نحو الماء والشمس ومزيد من الغيم.
مشاركة :