بعد ست سنوات مُضطربة، قدم وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الذي تعتبره واشنطن مهندس الاتفاق النووي المُبرم عام 2015 استقالته يوم 25/2، ما أدى إلى صدور العديد من التحليلات من قبل الأكاديميين والمعلقين، مفادها أن السياسة الخارجية الإيرانية بدت وكأنها ستتغير بشكل لا رجعة فيه بمغادرته. وكان ظريف قد كتب في بيانه الأخير قبل الاستقالة: «أعتذر عن عدم قدرتي على الاستمرار في الخدمة وعن كل أوجه القصور خلال الـ67 شهرًا الماضية، وأتوجه بالشكر إلى الأمة الإيرانية والمسؤولين». ورغم ذلك، تم رفض استقالته رسميا يوم 27 فبراير من قبل الرئيس حسن روحاني، وإبقاؤه في منصبه؛ حيث أكد في رسالة وجهها إليه أن الاستقالة تتعارض مع مصالح البلاد، وأنه لن يقبلها. وقال إنه اتفق معه على «ضرورة الحفاظ على مكانة ومصداقية وزارة الخارجية، والحفاظ على دوره كأعلى مسؤول معني بتنفيذ السياسة الخارجية للبلاد». وعلى الرغم من أن أسباب تقديم الاستقالة لم يتم تحديدها، فإن العديد من المحللين، أرجعوها إلى عاملين رئيسيين. الأول: عدم إخطاره باللقاء الذي عُقد بين آية الله خامنئي، والرئيس السوري بشار الأسد في طهران قبل أسبوع من تقديم الاستقالة. وفي هذا الصدد، يؤكد «شاهر شهيدالس» من «مؤسسة المجلس الأطلسي» بواشنطن أن إغفال وزير الخارجية عن الاجتماع المحوري مع الأسد والذي حضره مسؤولون آخرون من بينهم روحاني وقائد فيلق القدس قاسم سليماني اعتبره ظريف إهانة لمنصبه إلى الحد الذي جعله مضطرًا إلى تقديم استقالته». ومع ذلك، هناك آخرون غير مقتنعين بهذا السبب، حيث يرى «بهنام بن تاليبلو» في صحيفة «واشنطن بوست» أنه من المعلوم «عندما يتعلق الأمر بالسياسات في سوريا، والعراق ولبنان، فإن هذا الأمر خارج صلاحيات ظريف تمامًا، حيث تقع ضمن مسؤولية قاسم سليماني والحرس الثوري الإيراني، بينما تتحمل الخارجية مسؤولية تقوية الروابط خارج الشرق الأوسط». أما العامل الثاني، فهو الانتقادات الموجهة إليه بعد انسحاب أمريكا من «الاتفاق النووي» عام 2018. حيث هُوجم بشدة بسبب فشله في تشجيع الاقتصاد الإيراني وتحقيق القبول الدولي. وقالت «أريان طباطبائي» من مؤسسة «راند»، لقد «دُفع ظريف بقوة إلى النقاش الداخلي الحاد ولعبة المفاوضات بشأن الاتفاق الذي رأى فيه المتشددون تنازلاً رئيسيا آخر لوزير الخارجية، الأمر الذي أدى إلى انعزاله داخل الحكومة». وأكد «مايكل سينغ» من «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» أن استقالة ظريف ليست مفاجئة؛ لأن السياسات التي دافع عنها قد خرجت عن صالحها منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، موضحا أن رحيله يتعلق بالداخل الإيراني، وليس بالسياسة الخارجية». وفي هذا الإطار، يرى «تريتا بارسي» من «المجلس الوطني الإيراني الأمريكي» أن السبب الأبرز هو «الضغوط الأمريكية على إيران بعد انسحابها من الاتفاق النووي». وعلى الجانب الآخر، فإن رفض «روحاني» لاستقالته يشير إلى أن وزير الخارجية يُمثل للحكومة شخصًا لا يمكن الاستغناء عنه في الوقت الحاضر. وتقول «سوزان مالوني» من معهد «بروكينجز» إن «الانخفاض الشديد في البورصة الإيرانية، والشائعات حول الانسحابات والاستقالات في صفوف وزارة الخارجية، والدفاع المفاجئ من الرئيس الإيراني؛ تؤكد أن النظام الإيراني الثيوقراطي لا يستطيع تحمل حدوث انقسام عام بين صفوفه في الوقت الذي تزداد فيه الضغوط الأمريكية». فيما رأى بعض المحللين أن استقالة وزير الخارجية مع علمه بأنها ستُقابل بالرفض، كانت مجرد «مناورة سياسية»، و«مسرحية»، تمت بالاتفاق المسبق بين ظريف وروحاني، بهدف؛ تجاوز وضع داخلي في غاية الصعوبة نتيجة صراعات أجنحة النظام وقواه المختلفة، فضلا عن توجيه رسالة إلى المجتمع الدولي، بأن باب الحوار في إيران قد أغلق، وأن النظام متجه إلى مزيد من التصعيد والتشدد على أمل أن يقود هذا إلى الحصول على بعض التنازلات. كما أوضحت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أنها بمثابة «الخدعة» التي لجأ إليها النظام لإسكات الأصوات المعارضة على تردي الأوضاع الاقتصادية»، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن صداها قد يُعزز من موقف وزير الخارجية داخل الحكومة، ويقوي شوكته ومكانته بصورة أكثر قوة من ذي قبل، ولا سيما في وجه بعض المتشددين الذين كانوا يطالبون بإقالته. ويقول «سينا توسي»، لموقع «المونيتور» إنه «في ضوء رفض استقالته، يعود ظريف إلى منصبه بشرعية متجددة وسلطة صنع القرار بعد تلقي عبارات التأييد من مجموعة من النخبة الحاكمة في إيران». وكان قاسم سليماني قائد فيلق القدس قد وصفه بأنه «المسؤول الرئيسي عن السياسة الخارجية، وأنه يحظى دائما بالدعم من المرشد الأعلى علي خامنئي، ما يُرجح أن سليماني تلقى تعليمات لإظهار صورة تعبر عن وحدة الحكومة. وكما يقول «تريتا فارسي»، لشبكة «سي إن إن»، فإن «ظريف يعمل الآن كوزير للخارجية بناء على إصرار المرشد الأعلى بنفسه، مُوفرًا له الحماية في وجه المناهضين للحراك الدبلوماسي، والذين لن يبقى لديهم الآن سوى القليل من القوة لانتقاده». ومن ثمّ، فإن تثمين جهوده الدبلوماسية، في أعقاب استقالته، من قبل رموز سياسية رفيعة المستوى مثل؛ خامنئي وقاسم سليماني، قد عملت على إضعاف موقف الرافضين لسياسته الخارجية، وقلصت تحركهم السياسي وضاعفت من احتمالات استمرار إبقاء إيران على «الاتفاق النووي»، وهو ما يعد أحد النتائج المباشرة لهذه الاستقالة. وفي هذا الصدد يؤكد «تاليبلو» في صحيفة «واشنطن بوست»: أن «التأثير الأكبر للاستقالة هو مصير الاتفاق النووي وإرث حكومة روحاني»، حيث إن احتفاظ ظريف بمنصبه؛ يعزز من قدرته على الاستمرار في البحث عن سبل تُمكن إيران من البقاء في الصفقة، مثل التعاون مع أوروبا للتهرب من العقوبات الأمريكية، من خلال دوره الفعال في إبرام المفاوضات حول مشروع الآلية المالية الخاصة التي تم الإعلان عنها في يناير 2019. فضلا عن منع استبداله بأحد المتشددين، والذي من المُرجح أن يسعى في حال وصوله لتصعيد النهج العدائي مع واشنطن. وعلاوة على ذلك، فإن استمراره في منصبه، يعبر عن جزء من الدعم الشعبي المتبقي لحكومة روحاني، في ضوء تصاعد الرفض لها جراء الصعوبات الاقتصادية المتزايدة. وباعتباره العقل الرئيسي وراء تحديد ملامح الاتفاق النووي؛ فإن ظريف هو الشخصية الأكثر شعبية بين أعضاء حكومته الآخرين. وفي هذا السياق، تذكر «جولنار موتيفالي»، لوكالة بلومبيرج الأمريكية أنه «لو كان رحل فعلاً، فإن هذا من شأنه إضعاف ثقة الرأي العام في مدى قدرة النظام على تجاوز التداعيات الاقتصادية التي نتجت عن انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي. ولعل هذا يتفق مع ما قاله «جيسون رضائيان» في صحيفة «واشنطن بوست»؛ من أنه «من دون الجهود الدبلوماسية التي أحرزها وزير الخارجية، قد تكون هناك مجرد إنجازات ضئيلة بإمكان روحاني التعويل عليها لإرضاء الشعب الإيراني الذي قام بانتخابه مرتين على أمل أن تتحسن أوضاعه». وهنا، قد تكون تلك الاستقالة منعت وقوع أزمة من خلال الإبقاء على رمز قوي يحظى بالشعبية في الوقت الذي تتزايد فيه حدة المعارضة للحكومة الإيرانية. ويمكن القول إنه رغم أنها كانت أمرًا أصاب الحكومة الإيرانية بالارتباك، فإن رفضها على النقيض، عمل على استقرار النظام الراهن على حساب استهداف القوى المتشددة الضالعة في البلاد. على العموم، سواء كانت الاستقالة خدعة تم الاتفاق عليها مسبقا أو لا، فالنتيجة واحدة وهي وجود أزمة داخل النظام الإيراني تتعلق بالصراع على السلطة فعلا، وفرض السياسات، ومن الواضح أن الحرس الثوري أصبح هو الذي يمسك بزمام كل شيء داخليًّا وخارجيًّا، وهو الذي أصبح بمقدوره إقصاء من يشاء وتهميش من يشاء من المسؤولين. كما أن رفض الاستقالة لن يغير من الواقع شيئًا، والواقع أن هذا النظام يتآكل من الداخل، ويقف عاجزًا في مواجهة ما يعصف به من أزمات، وقد قطع على نفسه خط الرجعة؛ فلم يعد أمامه للبقاء إلا مزيد من التطرف والإرهاب في الخارج، والاستبداد في الداخل.
مشاركة :