كان حالاً استثنائية، متعدد المواهب - رحمه الله - وأحد أهم عمالقة الفكر الإنساني في الوطن العربي في هذه الفترة الراهنة، ويعد من النوادر في إلمامه بمختلف العلوم والفنون، الفيزياء والكيمياء والفلسفة والفكر والأدب والشريعة، ونبوغه فيها. يستعصي على ناقد الأخلاق نقده، مؤدب اللسان، يزن الكلمة قبل أن ينطق بها وزناً دقيقاً، عُرف بالأدب والكياسة وكبر العقل، وسلامة القلب سائدة في صفاته، شديد التواضع يشعر مجالسه أثناء الحديث بأنه هو من يضيف إليه، وأنه هو بمثابة مستفيد ومكمل له بالحوار، بغض النظر عن الفكرة المطروحة، وبكل تواضع وتجرد وشجاعة يقول: «لا أعلم» في حال لا يرى لديه إضافة إلى السائل. خلق علاقة وطيدة مع كل شيء جميل في حياته، صداقاته الممتدة، كتبه، ندوته، تسامحه الندي البهي، يشهد له أصدقاؤه وتلاميذه ومحبوه بأسلوبه الفريد، وذكائه الاجتماعي، وكأنه بالفعل زرع شجيرة ورد في قلب كل إنسان عرفه وتعهدها. كما رسم المشهد الدكتور الوفي أحمد البراء الأميري. يشع على من يجالسه الاتزان والتفكير الهادئ العميق، والالتزام بالمبادئ، وحب الحق والنور والجمال والبحث العلمي. يدهشك وهو يستمع إليك بامتنان؛ طالباً مساعدته أو شفاعته أو نصيحته، يشعرك بتفضلك عليه عندما قصدته. يحدثك ويشكرك بسعادة وإيمان عميق بجوهر الإنسان النقي، ويمد لك مودته ولطفه تغطي بها خجلاً وضعفاً. حينما بلغته وفاة صديقه الموسوعي العالم اللغوي المصري حسن ظاظا، قريباً منه في الرياض بعيداً عن وطنه، صار له أهلاً ووطناً، وأقام عزاءه وفاء لصداقة إنسانية، ورفقة علمية في بيته العامر، الذي يحتضن أميز وأعرق الندوات الثقافية في تاريخ المملكة. كان صديقاً للضعفاء والبؤساء، يتعاطف معهم في شكل ملهم، إذا أردت أن تعرف أكثر موضوع يؤرقه في حياته فاطرح قضية إنسان له، حالاً تتوهج مشاعره، فتفضح ملامحه قلبه الرقيق، تتغير نبرة صوته، ضميره الحي يؤلمه. يبادر بكل ما يستطيع لخدمته، مهما كان هذا الإنسان. كانت الاتصالات تأتيه من داخل المملكة وخارجها؛ تطلب المساعدة، فيبادرها بكل نبل، يتعامل بنقاء ومروءة وشهامة نادرة، وهو لا تربطه علاقة بهم، حتى إنه يخفي ذلك عن أقرب الناس إليه، يحب العمل في الظل، بعيداً عن الأضواء، كان غير متصالح مع الكاميرا. لم يكن صديقاً لها. كانت قضيته الانتصار للإنسان. كان صوتاً للبائسين والضعفاء، محامياً لهم، يترافع بالنيابة عنهم أمام أصحاب القرار والشأن، وكل من بيده شيء من المسؤولية، وهو يمتلك المقومات والأدوات، التي تجعله بارعاً في عملية الترافع وكسب القضية، فهو فنان في الإقناع، عقلاني الطرح، موسوعي مدهش، مفاوض محترف. كذلك، من أعماله الإنسانية التي ترسم عمق النبل الذي يحمله بقلبه، كان لي صديق تم إقصاؤه من موقعه الوظيفي بسبب اختلاف فكري طبيعي، فلم يتأخر في بذل وجاهته، لأجل أن ينتصر لهذا الإنسان الذي مارس حقه الطبيعي في التعبير عن رأيه. أذكر قديماً، في يوم من أيام الندوة الأحدية الشهيرة والعريقة، أثناء إلقاء الضيف ورقته العلمية دخل شخصان - فجأة - يحملان مجموعة من الكتيبات صغيرة الحجم، عنوانها «أساليب العلمانيين»، وشرعوا في توزيعها من دون استئذان، والندوة كانت قائمة، وكنت أشاهد الموقف الخالي من الذوق، والنضج الأسلوبي، فجأة قام الدكتور راشد - رحمه الله - ورحب بهم وضيفهم في مقدم الصالون الثقافي، وتسلم النسخ منهم ووضعها على الطاولة، وطلب من مسؤول القهوة أن يناولهم القهوة، وتعامل معهم بلطف عظيم، وبحكمته كسب ودهم، وأصبح أحدهم من روادها بشكل مستمر، من دون أن يشعر الحضور بشيء. يخالط الجميع بود عميق ونقاء، بعيداً عن المؤثرات والمظاهر، حتى مع من كان يختلف معه اختلافاً جذرياً في التفاصيل كافة، يمتلك مقدرة عالية في الاحتواء وخلق الحب والود العميقين، لأجل أن يوثق العلاقة، فهو إنسان تقوده الفطرة وليس خلفيات موروثة ومترسبة. كان قدوة فريدة في مسألة الفصل بين الأفكار والأشخاص. فالحب يملأ قلبه، والكراهية لا تجد مكاناً لها، ومن خالطه أو قرأ نتاجه الفكري الثري؛ فسيجد ذلك في حروفه أنها تتنفس الحس الإنساني العالي والسمو، وقداسة الإنسان من أهم مبادئه التي لا يتنازل عنها، ويدافع عنها بكل ما أوتي من قوة وعلم. من أولوية الأولويات في منهجه إصلاح العقول والنفوس أولاً وقبل كل شيء. البعض يعتقد أن أعمال الدكتور راشد كانت مقصورة في جانب معين أو اتجاه واحد، وهو في الحقيقة يعمل على جميع المستويات، فهم الوطن كان يسكنه، وكان دائماً يشارك في جميع الملفات الوطنية من دون استثناء، ويستثمر شبكة علاقاته الكبيرة مع علية القوم في خدمة الناس، وفي ما يخدم الوطن، على رغم قوة علاقاته وتوسعها، إلا أنه كان يمتاز بالاستقلالية. نزيهاً، لا يجامل في باطل، وشاهدت مواقف له مع كبار الشخصيات بالداخل والخارج. كان غيوراً على بني قومه، ويهمه تاريخهم الطويل وتراثهم ونتاجهم الفكري، له مواقف كثيرة عبر عنها في سياقات مختلفة، إما تأليف كتاب، وإما بحث أو مقالة علمية أو محاضرة، وغير ذلك. فمن ضمن مواقفه نقد واقع اللغة العربية، في مقالة بعنوان: «حتى لا تتصدع الحصون» في صحيفة الجزيرة ١٤٠١-٤-١٠هـ، العدد ٣١٠٣، فكرة المقالة ترتكز على تساؤل طرحه عن واقع الأجانب مع اللغة، وعدم تعلمهم اللغة العربية والتحدث بها، قياساً إلى البلاد الأخرى، التي يلزم المقيم فيها معرفة لغتهم. كان سؤاله: من هو الملوم في ذلك، هل هم الوافدون أم المستوفدون؟ ونشر مقالته الثانية بالعنوان نفسه والصحيفة ذاتها بتاريخ ١٤٢٨-٥-٢٥هـ العدد ١٢٦٧٤، وهي بمثابة مرافعة - كما أشار إلى ذلك - الهدف منها توضيح خطر وضرر القرار الذي تضمن السماح للمدارس الأهلية بالتدريس في المراحل الأولى من نشأة الطفل بغير اللغة العربية. وسأتناول ذلك في مقالة منفصلة. خلاصة القول، كان التسامح مبدأ يشكله ويتلوه على أرض الواقع فعلاً وقولاً، وحاول بكل شجاعة ونبل معالجة ذلك في أطروحاته العلمية، وفي ندوته الشهيرة التي كانت تستقطب جميع الأطياف والأسماء، وتمتاز بحرية الطرح والنقاش. كان صديقاً لجميع الأطياف من دون استثناء، محارباً للطائفية والعنصرية، بحكم موضوعيته المعهودة عنه. عالج في كتابه الشهير «فلسفة الكراهية» جوهر المشكلة، وهي: تبرئة الذات التي تعتبر مشكلة المشكلات، واتهام الآخر دائماً، وهجران مساحات كبيرة في ذواتنا، ورفض وتجاهل المراجعة. فهي دعوة إلى المحبة، ومحاسبة للنفس، ومعالجة للعلل الشرقية، ودراسة معمقة ومختلفة، أكاد أجزم بأنه ليس هناك كتاب شبيه له في الساحة العلمية بهذا النفس. تناول في كتابه «التطرف.. خبز عالمي» أزمة التطرف عند الآخر، بوعي ونفس موضوعي، وأن التطرّف لا مذهب له، فهو نموذج يجب تقديمه إلى الأجيال، ولاسيما في ظل هذه الظروف الصعبة والغامضة، التي أصبح فيها مبدأ التسامح محل رفض واستنكار. * كاتب سعودي. alzghaibi@
مشاركة :