على مدى الأشهر الماضية أتيحت لي فرصة زيارة ثلاثة من بلدان الخليج العربية، وهي المملكة العربية السعودية ودولة الكويت وسلطنة عمان، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها تلك البلدان الخليجية العربية الثلاثة، ولكنها كانت أول زيارات لي للبلدان الثلاثة بعد سنوات عدة مرت على آخر زيارة لي لكل منها، وإضافة إلى تغييرات وتحولات جرت في العديد من المجالات في تلك البلدان، فإن التطور اللافت الذي استرعى انتباهي وحظي بتركيز خاص من جانبي والذي دار في كل منها كان هو ما شهدته تلك البلدان من نهضة في ميادين متنوعة من تلك التي تندرج تحت العنوان العريض للثقافة، وهو الأمر الذي عكس بدوره اهتماماً على أعلى المستويات في تلك البلدان بالمسألة الثقافية، كما عبر عن سياسات عامة في تلك البلدان موجهة لرعاية الحياة الثقافية والنهوض بالعديد من ميادينها، وكان من الواضح أن معالم النهضة الثقافية والفنية تلك لا تحدث من قبيل المصادفة أو كأحداث متفرقة أو فعاليات عشوائية لا علاقة لكل منها بالأخرى. حدث ذلك على رغم الظروف المحيطة التي تمر بها البلدان العربية عموماً في هذه المرحلة التاريخية الصعبة والحرجة والمفصلية، ومن ضمنها البلدان الخليجية التي لها أيضاً هموم إضافية طبقاً لخصوصية الإقليم الفرعي في الخليج وكذلك تبعاً لظروف كل دولة منها. ولا تكمن هذه النهضة في مجرد بناء مباني لدور أوبرا أو مسارح أو دور عرض سينمائي أو قاعات للفعاليات والمعارض الثقافية تجمع بين كونها تتواكب مع أحدث الطرازات العالمية في هذا المجال وتواؤمها مع البيئة المحلية والتراث الثقافي الوطني، وهو أمر في حد ذاته أعتبره من وجهة نظري إنجازاً كبيراً، أو مجرد استقدام فرق أجنبية لتقديم عروضها في هذا المجال من الفنون أو ذاك، وليس في دعم إصدار الكتب وكذلك دعم عملية ترجمة واسعة لكتب أجنبية لها قيمتها العلمية أو الأدبية أو الاجتماعية أو الإنسانية أو الأكاديمية، وكل من هذه الأنشطة له قيمته وأهميته ودوره الذي يثري المجتمع ككل. كما لا تقتصر هذه النهضة على إحياء أدوار ثقافية نشيطة لعبتها بعض هذه البلدان في مراحل تاريخية سابقة، بل تبدو الصورة متكاملة ومخططة بشكل أعد له جيداً وبصورة مرتبة، كذلك تجمع بين أكثر من رافد من روافد الثقافة العربية، وكذلك الثقافات المحلية لكل مجتمع، وكذلك مع معطيات وروافد الثقافات الخارجية المتنوعة، بشكل بدا واضحاً عليه التجانس والانسجام. فقد رأيت على سبيل المثال لا الحصر اهتماماً كبيراً بالفنون التقليدية والسعي للمحافظة عليها، بل لترويجها وتطويرها في إطار تقليديتها، وكذلك للتعريف بها على نطاق واسع، سواء في الداخل، خاصة للأجيال الجديدة من النشء والشباب، أم في الخارج، سواء على الصعيد الإقليمي أم على الصعيد الدولي. ولا يظهر هذا الاهتمام فقط في العواصم والمدن الكبرى، بل وخارجها، ويترجم نفسه في صورة تشجيع ممنهج للمواطنين في مختلف المناطق على إبراز موروثهم الثقافي، سواء جاء في شكل معارف متوارثة أم منتجات حرفية تقليدية أم مظاهر متنوعة من الفنون الفردية والجماعية المختلفة، وهو الأمر الذي يتم من خلال توفير الحوافز لذلك، مثل تنظيم المسابقات المحلية والوطنية أو المشاركة في مسابقات إقليمية ودولية مختصة في هذا المجال وتقديم الجوائز للفائزين، ما يشجع على إيجاد أجواء تنافسية شريفة لا تتسم بوجود أي ضغائن أو أحقاد أو حساسيات ولا تخلق أي عداوات، كما لا تؤجج أي صراعات، بل تترك ذكريات إيجابية مشتركة وتمثل ساحات للتعارف وتبادل الخبرات وتدفع من لم يفز بجائزة في هذه المرة إلى السعي للتفوق وتحسين جودة العمل وإتقانه والابتكار فيه للفوز بجائزة في مرة أو مرات قادمة، كذلك يتم تقديم هذه الفنون التقليدية للمواطنين كافة عبر آليات عدة تتضمن، ضمن أمور أخرى، توظيف التكنولوجيات المتقدمة في عالمي المعلومات والاتصالات، وكذلك استخدام الصروح والمنشآت الثقافية والفنية الجديدة الضخمة والمتعددة الأغراض، خاصة تلك التي تم إنشاؤها خلال السنوات القليلة الماضية. كذلك تضمنت تلك النهضة الثقافية تقديم فنون شعوب وأمم العالم المختلفة الأخرى إلى شعوب البلدان الخليجية العربية الثلاثة المذكورة، وهو أمر له دلالاته وانعكاساته الإيجابية بلا شك، خاصة على المدى المتوسط والبعيد، لأنه يمهد لتعارف حضاري إنساني شامل وتلاقي ثقافي أوسع ويساعد على بناء فهم واعي للشعوب الأخرى وفنونها، وعبر تلك البوابة يساعد هذا الدور أيضاً على فهم كيف تفكر شعوب العالم الأخرى وما هي تقاليدها وعاداتها وكيف تكون أنماط حياتها وكذلك مما يتكون تاريخها، وبالتالي معرفة ما هو مشترك مع تلك الشعوب لزيادة مساحة التفاهم والتقدير والاحترام المتبادلين، ولكن تحقيق ذلك عبر الاعتماد على المعرفة والإدراك والمعايشة عن قرب، وليس فقط عبر المشاهدة أو القراءة عن بعد من دون تفاعل إنساني وثقافي وفني مبدع وخلاق وذا طابع مبتكر. ومن وجهة نظري تكمن الميزة الأخرى لتقديم فنون شعوب أخرى إلى شعوب تلك البلدان الثلاث في تعريف هذه الشعوب بفنون ظل معظم أبناء الشعب يسمع عنها فقط أو يشاهدها على شاشات التليفزيون دون أن يتعرف عليها على الطبيعة، وهو الأمر الذي تحقق فقط لمن سافر أو عاش خارج بلاده من أبناء تلك البلدان. وفي المجمل وفي الختام، يمكن القول أن معالم النهضة الثقافية المتزايدة في السنوات الأخيرة في البلدان الخليجية العربية الثلاث المملكة العربية السعودية ودولة الكويت وسلطنة عمان، وإن كانت أشمل وأكثر طموحاً من معالم ومحاولات سابقة، فإنها يجب أن توضع أيضاً في سياقها التاريخي، فدولة الكويت كانت صاحبة ريادة في الخليج في المسرح والدراما وغيره من الفنون بالإضافة إلى ترجمة أمهات الكتب والدوريات للغة العربية وتوزيعها على نطاق واسع ليس في الكويت وحدها، بل على امتداد الوطن العربي، منذ مطلع سنوات الاستقلال مطلع ستينات القرن الـ20 وحتى نهاية عقد الثمانينات، والمملكة العربية السعودية شهدت طفرة ثقافية وفنية تاريخية سابقة عبر إطلاق مهرجان الجنادرية الثقافي من جهة وإطلاق حركة طباعة ونشر واسعة من جهة أخرى، وسلطنة عمان حافظت دوماً على خصوصية نشاطها الثقافي، والذي يعكس بدوره خصوصية عطائها الحضاري، ورعاية الدولة له بأشكال متعددة وتحت عناوين متنوعة، خاصة ما يتعلق منه بالمعارف التقليدية وأشكال التعبير الثقافية المختلفة والمتعددة والمتنوعة. كذلك يتعين القول هنا أن هناك بلداناً عربية أخرى عدة تشهد بالتأكيد بدورها في الفترة الأخيرة نهضة ثقافية، سواء عامة وشاملة أم في هذا المجال أو ذاك من مجالات الثقافة والمعارف والفكر والفنون والآداب، إلا أنه لم تتح لي أخيراً للأسف فرصة زيارة تلك البلدان أيضاً والتعرف على الطبيعة على معالم نهضتها الثقافية تلك، وآمل في المستقبل القريب أن تتاح لي مثل هذه الفرص حتى أستطيع أن أعطي تلك البلدان أيضاً حقها في إبراز تجارب نهضتها الثقافية ومعطياتها وما تتصف به من خصائص وما بها من أوجه خصوصية من جهة وأوجه مشتركة مع بلدان عربية أخرى من جهة أخرى. وتصب كل هذه التجارب في نهاية المطاف في مصلحة الحالة الثقافية العربية العامة ككل وفي إيجاد مناخ بنّاء فيما بين الشعوب والنخب على الصعيدين الوطني والعربي من منطلق حقيقة أن الثقافة تحقق الكثير مما لا تستطيع السياسة أن تحققه أو مما لا يستطيع الاقتصاد أن يحققه من سبل ووسائل لجمع الصفوف وتآلف القلوب حول مشاعر راقية وأفكار بناءة وحوارات هادفة وأحاسيس مرهفة ذات طابع إنساني عالمي وذات أصول وجذور عميقة في التاريخ الثقافي والاجتماعي العربي الجمعي، وبعيداً عن أي تعصب أو كراهية أو حض أو تحريض على «الآخر»، وسعياً لإيجاد حالة معاشة وواقعية من الأخوة الإنسانية الباحثة، بجد واجتهاد وإرادة ورغبة، عن المشترك الثقافي فيما بين الأمم والشعوب المختلفة. * مفكر وكاتب مصري.
مشاركة :