حلب- على سطح سوق السقطية، إحدى أشهر أسواق حلب القديمة، يتنقل المهندس باسل الظاهر بحماس بين عمال بناء منهمكين في ترميم الأجزاء المتضررة جراء المعارك التي عصفت بالمدينة طيلة سنوات ولم تنج منها أبرز المعالم الأثرية. وبعد مرور ثماني سنوات على اندلاع النزاع، لا تزال المدينة القديمة والأحياء الشرقية التي كانت تحت سيطرة الفصائل رازحتين تحت دمار كبير. وتعدّ السقطية واحدة من بين 37 سوقا تحيط بقلعة حلب الأثرية واستقطبت قبل اندلاع النزاع في عام 2011 آلاف التجار والسياح. وتقع السوق في المدينة القديمة التي أدرجتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) على قائمتها للتراث المهدد بالخطر جراء الأضرار والدمار والنيران التي لحقت بهذه السوق خلال الحرب. وتعتبر سوق السقطية التي تضم أكثر من 53 محلا تجاريا مخصصا لبيع الحلويات والمكسرات المركز الأساسي لأسواق مدينة حلب القديمة وتمتد على طول نحو مئة متر بشكل مستقيم من باب أنطاكية غربا حتى مدخل قلعة حلب شرقا، وتم تشييدها في عهد الرومان وتجاورها بقية الأسواق على الطرفين، وكانت تشهد حركة تجارية واسعة. المهندس حسام حلبي رئيس دائرة التنفيذ والصيانة بمديرية مدينة حلب القديمة أوضح في تصريح لوكالة الأنباء السورية (سانا)، أن أعمال ترميم السوق تتضمن إعادة تأهيل الواجهات الحجرية والقباب والبنية التحتية التي تضم شبكات الماء والكهرباء والاتصالات والصرف الصحي بهدف إعادة الألق إلى هذه السوق والحفاظ على هويتها وطابعها العمراني دون الدخول إلى المحلات لأنها ملكيات خاصة. ولفت إلى أن أعمال ترميم سطح السوق تشمل صب عدسة جديدة لكامل السطح وبمواد تقليدية، إضافة إلى أعمال العزل وإزالة جميع مظاهر التعديات التي كانت موجودة بهدف إعادة السوق إلى ألقها من جديد وإعادة بناء القباب وتركيب ألواح الطاقة البديلة لتوليد الكهرباء وتأمين الإضاءة للمحال التجارية. يجول الظاهر (42 عاما) -وهو واحد من ستة مهندسين يشرفون على عملية الترميم- بين العشرات من العمّال على سطح السوق القديمة ويعاين عملهم عن قرب. ينهمك ثلاثة منهم في رفع أتربة الأرضية وتوضيبها في أكياس بيضاء بينما يكاد ينتهي آخرون من إكساء إحدى القباب بحجارة بُنّية صغيرة. وتميز القبب نصف الدائرية سقف السوق، وباتت ثلاث منها مطلية بالأبيض بينما لا تزال آثار الشظايا بادية على أخرى لم تصل إليها ورشة التأهيل بعد. سوق السقطية تعتبر التي تضم أكثر من 53 محلا تجاريا المركز الأساسي لأسواق مدينة حلب القديمة سوق السقطية تعتبر التي تضم أكثر من 53 محلا تجاريا المركز الأساسي لأسواق مدينة حلب القديمة والقباب في السوق نوعان منها الحجرية ومنها المصنوعة من القرميد الأحمر حيث تمت إعادة ترميمها وبنائها، إضافة إلى ترميم الواجهات وتعويض المفقود منها بحجارة من النوع نفسه وطبقا للمواصفات المتبعة للترميم في مدينة حلب القديمة ومديرية الآثار. ويشرح الظاهر أن الهدف الأساسي من الأشغال “ترميم السوق من آثار الحرب… وإزالة التشوّهات والتجاوزات” التي لحقت بها جراء مخالفات بناء قديمة. ويتابع “أما الهدف الكبير فهو إعادة التجار إلى محلاتهم” تمهيدا لاستئناف العمل في هذه السوق. ولفتت المهندسة لولوا خربوطلي -من جهاز الإشراف على أعمال الترميم- إلى جملة الأعمال التي يجري تنفيذها في محور السوق، من أهمها معالجة الحجر وتنظيفه وتكحيله وإكمال تطيين القباب وصيانة أبواب المحلات التجارية، مشيرة إلى أنه تم ترميم وصيانة محلين تجاريين كنموذج لتشجيع أصحاب المحلات التجارية على العودة إلى السوق وترميم محالهم من الداخل. وبدأ مشروع الترميم قبل أربعة أشهر بموجب هبة قدّمتها مؤسسة الآغا خان للمشاريع الثقافية. ويُتوقع أن ينتهي هذا المشروع في مطلع يوليو المقبل. ولطالما اشتهرت حلب بأسواقها التجارية القديمة التي تعدّ من أقدم الأسواق في العالم، وتمتد من باب أنطاكية غربا حتى مدخل قلعة حلب شرقاً، على مساحة تفوق الـ160 ألف متر مربع تقريبا. في سبتمبر 2012، احترقت هذه الأسواق بسبب القصف، وهُدمت مئذنة الجامع الأموي القريب منها خلال المعارك. وتقدر منظمة اليونسكو أن نسبة ستين في المئة من المدينة القديمة تضررت ضررا جسيما، بينما دُمّرت نسبة ثلاثين في المئة منها بالكامل. وتبدو سوق السقطية أفضل حالا من الأسواق الأخرى، إذ لا تتجاوز نسبة الدمار فيها ثلاثين في المئة، وفق الظاهر. ويقول الظاهر “لا أعتبر نفسي جزءاً من مشروع تجاري بقدر ما أعتبر أنني أساهم في إعادة رسم التاريخ من خلال ترميم ملامح هذه السوق”. ويضيف بفخر “بالنسبة إليّ، إنه مشروع العمر”. وتطلّ سوق السقطية على قلعة حلب التي تعدّ نموذجا مشهورا للعمارة العسكرية الإسلامية في القرون الوسطى، وتسبب تفجير صيف عام 2015 في تدمير جزء من السور المحيط بها. وتجاور هذه السوق كذلك الجامع الأموي الذي تقوم مؤسسة الإسكان التابعة للإنشاءات العسكرية بأعمال ترميمه بهبة قدّمتها جمهورية الشيشان. وتشهد حلب القديمة مشاريع إعادة تأهيل صغيرة مثل ترميم مديرية الآثار السورية لمتحف التقاليد الشعبية، فيما لا تزال الأحياء الشرقية على حالها منذ انتهاء المعارك. وتقتصر أعمال الترميم فيها على مبادرات فردية محدودة بينما تعمل السلطات على تأهيل البنى التحتية وإعادة الخدمات تدريجيا. ويشير الباحث المتخصص في تاريخ حلب القديمة علاء السيد إلى أن بعض الدراسات تُظهر أن أسواق حلب القديمة يعود تاريخها “إلى 300 سنة قبل الميلاد، أي عمرها أكثر من ألفي عام”. وعن إمكانية إعادة بنائها يقول السيّد -وهو ابن حلب وأحد المشرفين على مشروع يهتمّ بتوثيق تاريخها- إن المدينة تعرضت لعدد كبير من الزلازل والغزوات على مرّ العصور، وهدّمت مثل هذه الكوارث أسواقها، لكن “يُعاد بناؤها في كل مرة”. ويتحدّث السيد عن أهمية أسواق حلب مبررا هذه الأهمية بكون هذه الأسواق “أطول وأقدم الأسواق المسقوفة في العالم” وهي تضمّ المئات من الدكاكين والخانات والحمامات والمدارس والمساجد والفعاليات الاجتماعية. ويقول ضياء العيسى (38 عاما) الذي يشرف على عملية إعادة تأهيل أحد أبواب السوق الضخمة -وهو من بين نحو ستين عاملا يشاركون في الترميم- إن “عمليات الترميم اليوم لا تشبه تلك التي كانت تجري في الماضي أبدا”. ويضيف الرجل الذي ارتدى خوذة بيضاء “كنّا نعالج قشرة الحجر (مما لحقها) جراء الزمن والرطوبة والهواء. أما اليوم، فنحن نعالج الحجر بسبب شظايا القذائف وآثار الحرائق ونعيد بناء قباب دُمّرت بالكامل”. ويبدو العيسى متفائلا بإمكانية إعادة السوق إلى ما كانت عليه قبل الحرب، لافتاً إلى أن عمليات الترميم ستجري “دون التدخل في مراحلها التاريخية وبأقل قدر ممكن من هدر الخشب والحجر”. ويبدو زميله محمد باقية (47 سنة) واثقا من أن “الحجر سيعود، لكن الأهم هو عودة أصحاب المحلات وعودة الحياة من خلال الناس الذين ينعشون السوق”. ويقول “مهما كانت السوق جميلة، لن تكون كذلك في حال كانت خالية من الناس”.
مشاركة :