لم يقدم لنا عبد الكبير الخطيبي فلسفة للنقد المزدوج، لم يكن ذاك هدفه، وأنّى له أن يفعل، وهو الذي متى تمحصنا كتاباته ندرك أنها جاءت لتعطل عمل النظام، أيِّ نظام. إننا أمام تفكير غير نسقي بامتياز. إن الأمر يتعلق بتمارين تفكيكية، تتخذ أشكالا مختلفة وأجناساً متباينة، ولكنها تضع اليد على العنف، أيَّما كان مصدره. وحين ينتقد الخطيبي مفهوم الهوية مثلاً، فهو يخلخل منطق الانتماء ووهم الأصل ونقاءه، وفي الآن ذاته الهيمنة الغربية التي تؤبد هذا الخروج من الحداثة. وحين يعلن الخطيبي أن الغرب جزء مكون لهويتنا المغاربية، وحين ينتقد الثيولوجيا السياسية، فهو يمارس لا ريب نقداً للغرب والأصل معاً، وبلغة أخرى إنه يدعونا في لغة لا تقبل الشك إلى الإيمان بقيم الاختلاف والحداثة. ولهذا، من التعسف الشديد أن يقدم أنثروبولوجي مثل عبد الله حمودي على وصف نقد الخطيبي للغرب بالسريع. لكن أغرب من ذلك أن يتهم هذا النقد بأنه يستمد أدواته من النقد الغربي نفسه، فأولاً لا يوجد نقد غربي بالمطلق، ولكن يوجد نقد للغرب كما نعرفه من كتابات المدرسة الفرنسية، وهو هذا النقد الذي دعانا الخطيبي إلى تعلمه وتوجيه سهامه إلى كل أشكال الهيمنة، ولكن حتى بالنسبة إلى حمودي، فمن أين استمد أدواته لدراسة المجتمع المغربي مثلاً، أليس من هذا الغرب نفسه؟ وتفكيك الميتافيزيقا الغربية أمر لا مندوحة عنه في سياق التحرر من الهيمنة، ولا يمكن البتة الرد على التفكيكية بأنها عاجزة عن «استئصال تلك المفاهيم والقيم لقصورها في مجال خلق البديل»، فنحن نظلم التفكيكية بذلك مرتين، فأولاً لم تدَّعِ التفكيكية أنها تهدف إلى تقديم بديل، ومن ينتظر منها ذلك فهو لم يفهمها، وثانياً إن تفكيك السلطة وأشكالها هو أكبر ضمان ضد إعادة إنتاجها، وبلغة أخرى إن ذلك أكبر من مجرد تقديم بديل يستبدل سلطة بسلطة، أو في لغة شاذر كبير «جثة بأخرى»، بل نظلمها أكثر حين نصفها بـ «النظرية»، كما يفعل حمودي في بداية كتابه «الرهان الثقافي»، ربما لأنه لم يتخلص من تفكير أدمن الاسم والتسمية. كما أستغرب في هذا السياق أيضاً حديث حمودي عن أن نقد المجتمعات المغاربية لدى الخطيبي لا يتعدى «التنديد بالتقليد وبهيمنة الديني على السياسي و «اللاهوت» على المعرفة»، ولا أعرف أمام أي مشكلة، أو بالأحرى مأساة يقف العالم العربي منذ أكثر من عقود، إن لم تكن مأساة هذا الزواج المعمد بالدم بين الدين والسياسة. وأدعو في هذا السياق أيضاً إلى إعادة قراءة أعمال الخطيبي عن الجسد والخطاب الحمدلي والإنسان- القنبلة وصور الغريب وأعماله الأوتوبيوغرافية وغيرها، لنقف بوضوح على عمله التفكيكي المبدع، فكيف يمكننا في النهاية أن نصدر مثل هذا الحكم السطحي من أن تنديد الخطيبي «لا يزيد كثيراً عن ادعاءات ذلك النوع المغرض من الاستشراق الذي تدعي هذه النظرية الخاصة مواجهته». ثم ينتهي حمودي، وفي جرة قلم متسرعة، إلى إصدار حكم متعجل على عمل الخطيبي يدعي أنه «لم يتناول الثقافات المغاربية بالتحليل والمراجعة ولا يخوض معركة المفاهيم والمؤسسات التي تنبني عليها الثقافات في المجتمعات الغربية». علاوة على ذلك، فإن من التجني أيضاً وصف تيارات أخرى داخل الثقافة العربية بأنها تمارس نوعاً من النقد المزدوج، مثل التيار التوفيقي أو التيار الأصولي، لأن مثل هذه التيارات لا تمارس النقد ولا النقد المزدوج، فهي لا تمارس النقد لأنها تيارات تعادي الحداثة ولا تمارس النقد المزدوج لأنها تظل مرتبطة وبشكل مَرَضي بأصل أو وهم أصل انفصلنا عنه، كما قال الخطيبي بحق. إن تعميم مفهوم النقد المزدوج على مثل هذه التيارات النكوصية يفرغه من قيمته النقدية والثورية في آن.
مشاركة :