أهمية النقد المزدوج

  • 1/30/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

عبد الإله بلقزيز يستكمل نقدُ الثقافة الغرْبية، كفعلٍ معرفيّ، نقدَ الثقافة العربية الإسلامية ويُساوقه؛ كلاهما جزءٌ من مشروعٍ واحدٍ هو مشروع النقد المزدوج: للأنا والآخر. شهِد الفكر العربي المعاصر على هذا النوع من النقد (= المزدوج)، وأفصحَ عنه درجاتٍ من الإفصاح متفاوتة، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولكن في شكلٍ من النضوج أكبر، منذ ستينات القرن العشرين. على أنّ المنزِع إلى النقد المزدوج، ما كان غلاّباً بحيث شمِل الفكر العربي كلَّه، وإنما الغالبُ عليه أنه كان محدودًا في بيئات فكرية ضيقة، وإنْ ظلت عظيمةَ التأثير في مجرى تاريخ الفكر ذاك؛ فما كلُّ منِ انتقدوا الثقافة الغربية انتقدوا الثقافةَ العربية، وما كل من انتقدوا هذه انتقدوا الأولى، إذ ظلت خيوط الصلة بين النقديْن مراوِحةً بين الاتصال والانفصال. من أجل جلاء صورةِ لحظة النقد المزدوج في الفكر العربي، من المفيد أن نَبْسُط في إسراعٍ، وفي غير إفاضة، خريطةً معرفية لتيارات النقد في الفكر العربي المعاصر، ومكانةَ تيار النقد المزدوج منها. يمكننا أن نَلْحَظَ سبعةَ تنويعاتٍ على مقامِ النقد في الفكر العربي ينصرف الواحد منها غيرَ منصَرَفِ غيره، وينطلق من مقدمات هي غير ما هي لدى غيره: أوّلها نقدُ التراث وتبجيلُ الغرب لدى من يجهلون الثقافة العربية الإسلامية ولا يعرفون من الثقافات سوى الثقافة الغربية (الأوروبية خاصة). وتلك حال السواد الأعظم من أصحاب المقالات الحداثيين، خاصة في الأربعين عامًا الأخيرة التي تدهور فيها الدرس العلمي (والجامعي) للفكر العربي والإسلامي في البلاد العربية، وانقطعت فيها الصّلات بين الدارسين والأصول والمظانّ، وازدهر فيها الاقتباس والتقليد والترجمة والشروح، والعنعنة من المصادر الغربية (نظيرَ عنعنات القدماء والتقليديين)، وضؤُول الإنتاج وشحّ. وثانيها، نقدُ الغرب وتبجيل التراث عند من يجهلون الثقافة الغربية، ولا يعرفون من الثقافات سوى الثقافة العربية الإسلامية. وهذه حال التقليديين والأصاليين (= دعاة الأصالة) المستمرّين، وجودًا ونفوذاً، منذ مئات السنين. ولقد كانت مقالتُهم هذه من ثمرات حال التردّي التي يرزح فيها الدرس العلمي (والجامعي) الإسلامي، وانقطاعه الكامل عن الثقافات الإنسانية المعاصرة. إنّ هؤلاء الأصاليين الجاهلينَ الثقافة الغربية - كالحداثيين الجاهلينَ الثقافة العربية والإسلامية - إنما يخوضون حروبًا دونكيشوتية ضدّ أهداف لا يعرفونها، بل لا يتبينون من صورتها إلاّ ما كوَّنَتْهُ عنها مخاييلُهم من مُنَمَّطات مبتذلة. وثالثها، تمجيدُ التراث وتبجيلُهُ والإسرافُ في تلميع صورته من دون نقد الغرب. والسالكون هذا الدرب كُثر، ولكنهم، إذ يشتركون في أنهم يشغُفون بالتراث، يتميَّزون من بعضهم في الأسباب التي تقوم وراء إحجامهم عن نقد الثقافة الغربية؛ فمنهم من يمنعه تأثُّرُه بها من نقدها، ومنهم من يجهلها الجهل الكامل، فلا يجد ما يقوله فيها؛ ومنهم من يأخذ، من العلم بها، نصيبًا متواضعًا لا يؤهِّله لمناظرة مقالاتها؛ كما أن منهم من ينتقدها بالواسطة (من خلال تبجيل التراث)، أو يتصرّف بمقتضى قاعدة كم من أمورٍ قضيناها بتركها. ورابعها تبجيل الثقافة الغربية والغرب والتوّله والولوع بهما من غيرِ نقدٍ التراث. وحالُ مَن يسلكون هذه الطريق حالُ مَن يسلك سبيل تبجيل التراث: متيَّمون بالغرب جاهلون للتراث أو مُلِمُّون بنذرٍ منه لا كفاية فيه، أو ضاربون صفحًا عنه لا يقربوه كأنّ به دنسًا. والمنتمون إلى هذه الفئة، على قليلِهم، مثلُ المنتمين إلى سابقتها: لم يسكُن وعيَهم بعد حسُّ النقد جملةً، فكيف بأن يتنفَّلوا فيه فيأتون النقدَ المزدوج؛ التبجيل والتقديس والتقليد وتَقَفّي آثار السلف، كلُّ بضاعتهم وثقافتهم. وخامسها، نقدُ التراث (الثقافة العربية الإسلامية) ممّن لا يعرفون غير الثقافة العربية الإسلامية، أو ممّن لا يتعدّى حظُّهم من الثقافة الغربية والثقافات الحديثة نُتَفًا يسيرة مستقاة من كتب عامة، أو مترجمات. وللنقد ذاك، من الموقع هذا، فضيلةٌ ثقافية غير قابلة للإنكار؛ فهو نقدٌ يُطْلِعُنا على أنّ الثقافة التراثية لا تربّي على اليقينية والاجترار فحسب، وإنما تدرِّب من يتصلون بها من قرائها على قيم التساؤل والنسبية والتاريخية، وعلى وسائل المقارنة والفحص والتبيُّن والتحليل. والغالب على نقّاد التراث، من ذوي المعرفة الحصرية بالتراث، أنهم من الذين اتصلت علاقتهم بالنصّ الفلسفي والكلامي العربي والإسلامي، وتَمرّن وعيُهم على قواعد الجدل والمناظرة والتحليل والاستنتاج والتركيب، فتوفَّر لهم بذلك من الأدوات والتحصينات ما لم يكن يسع غيرهم حيازته. وسادسُها، نقدُ الغرب والثقافة الغربية ممَّن رُبِيَ وعيُهم ولسانُهم في أكناف الثقافة الغربية، والدين ما عرفوا من الثقافات غيرها. وقد يكون الدافعُ إلى نقد الثقافة تلك دافعًا قوميًا أو دينيًا، ولكنّ الأهمَّ من الدافع هذا أنّ نقد الغرب يُطلِعُنا، أيضًا، على أنّ الثقافة الغربية لا تربّي متلقّيها على التقليد والاجترار، فحسب، وإنما تدرّبه على قيم النقد والنسبية والتاريخية والغيرية والتعددية، وتعلّمه كيف يتحرّر من التنميط وأحكامه، ومن الوعي الإيديولوجي، والمطلقية في التفكير، وبكلمة: كيف يكون مفكّرًا حرًّا. أما سابعها، فهو النقد الذي ذكرناه في مطلع الحديث (= النقد المزدوج). فهذا نقدٌ لأنّه يبني صلتَه بالنصوص المقروءَة على مقتضى حوارِها وجدالِها ومساءلةِ منطلقاتها واستنتاجاتها ومراميها، لا على مقتضى الكفايةِ بها والتشبُّع بمعطاها. وهو مزدوج لأنه لا يُعْمِل نفسَه في مرجعيةٍ ثقافيةٍ واحدة. بل في اثنتين فأكثر. وليس من تزيُّدٍ في القول إنّ مبدأ الازدواج هو الذي يؤسِّس مبدأَ النقد، ويقيم له الحجّة؛ فقد يكون المرءُ نقديًّا تجاه ثقافةٍ، لكنه يمارس نقديتَه لها من داخل ثقافةٍ أخرى تكون، في هذه الحال، مرجعَهُ ومعيارَه. وهكذا يُنالُ من نقديته (تجاه الثقافة الأولى) بانحكامه بمعايير ثقافيةٍ أخرى. أمّا حين يزدوج النقد، أو يَتَكَرَّر، فيُفصح عن نفسه هنا وهناك (وربما هنالك)، يكون في ذلك ما يكفي من الأَمارات الدَالة على أنه نقدٌ يمشي على قدمين، وليس نقدًا أعرجاً أو قُل انتقائيًا؛ وكلّ انتقائيةٍ، بالضرورة، فعلٌ إيديولوجي بامتياز. نقد الثقافة الغربية، الذي نعنيه، ينتسب إلى هذا التيار من تيارات الفكر العربي المعاصر الذي مارس رموزُه نقداً مزدوجاً للآخر والأنا معاً، أو الذي كان نقد هذا عنده وجهاً آخر رديفاً لنقد ذاك. ليس الهدف من نقد الثقافة الغربية، إذن، الانتصار لفكرة الأصالة وللأنا والهوية والموروث، تماماً كما أنّ نقد التراث ليس من أهدافه الانتصار لمرجعية الثقافة الغربية؛ فالذين ينتقدون الغرب، في الحالة التي نتحدث عنها، ليسوا تراثويين تماماً، كما أنّ الذين ينتقدون التراث ليسوا غربويين، إنّ هؤلاء وأولئك يجمعهم الاشتراك في مشروع ثقافي واحد هو الحداثة. والحداثة ليست نموذجاً جاهزاً للاستنساخ، ليست بضاعة يمكن استيرادها كأيِّ مُقْتَنًى مادي من المقتنيات، وإنما الحداثةُ مشروعٌ تاريخي كوني تبنيه الثقافات والمجتمعات من مادة/موادّ محلية، مستفيدةً من خِبْرات الثقافات والمجتمعات كافة. لذلك تحدثنا في مناسبات عدّة عن الحداثة بوصفها حداثات، ناقدين النظرة الأقنومية النموذجية والتنميطية إليها. وليس من شك في أنّ خطاب الحداثة في الفكر العربي المعاصر أنجز تمرينه النقدي، بنجاح، على المرجعين الثقافيين: العربي الإسلامي، والأوروبي الغربي مثبتاً بذلك أنه خطاب ينتمي إلى الحداثة بالمعنى الذي إليه ألمحنا.

مشاركة :