العراق العربي، والعراق العروبي شاءت أقداره وسياسات التخبط وخارطة برايمر أن تصبح هويته العربية مهددة بالتفريس بعد انغماس حزب الدعوة وميليشيات الفقيه في أن تؤسس جميعها هوية أخرى لهوية عراق العرب والعروبة. وفي هذا السياق، فقدت الأحزاب والقوى والفصائل العراقية الأخرى أي تأثيرٍ حقيقي في المشهد واللعبة السياسية، وما عادت في أحسن أحوالها سوى رديف فاقد القرار، كما جرى للحزب الشيوعي العراقي صاحب التاريخ الوطني المديد الذي أضاع البوصلة، فلا هو مدني ولا هو لاهوتي. وإيران الرسمية اطمأنت لسيطرتها على العراق، وبالنتيجة دخل صراع تقاسم الكعكة العراقية بين مراكز القوى الايرانية مرحلة علنية مع تدشين زيارة حسن روحاني لبغداد والنجف بوجهٍ خاص، ليوجه من خلال الزيارة الرسمية لبغداد والزيارة الدينية للنجف، حيث مقر المرجع السيستاني رسائل إلى جماعة قاسم سليماني وسليماني نفسه الذي اعتبر نفسه المندوب السامي الايراني يحكم المنطقة الخضراء والعراق كما يشاء. روحاني شعر مع فقدان أي وجودٍ له في العراق بالتهميش وبشيء من العزلة التي تضاعف أثرها وكبرت تداعياتها مع العقوبات الامريكية الشديدة، وأصبح روحاني وحكومته حائط الصد، والضحية للسخط الشعبي العارم، والمسؤول الأول عن الآثار الاقتصادية الخانقة، بما يهدد مصير حسن روحاني وبما يضع رقبته تحت المقصلة أثناء البحث عن كبش فداء يحمِّلونه الآثار والأخطاء. لعبة الشطرنج «وهي اختراع فارسي قديم»، تدخل الآن مرحلة صراع مكشوف بين فيلة السلطة الايرانية والمرشد الأعلى يحرك بيادقها على رقعة رسم حدودها بدقة لصالح استمرار قدسيته، فذلك «الرهبر» القائد يخرج منها كما الشعرة من العجينة ويتحمل غيره وسواه سخط الشعب وغضبه. روحاني شعر بحاجةٍ إلى مرجع يستند إليه في صراع خرج عن حدود طهران ووصل إلى قلب بغداد، فخطط لزيارة رسمية الهدف منها ديني مذهبي عنوانه النجف وتفاصيله في لقاء مع السيد السيستاني الذي يفهم صراع الشطرنج الإيراني بحكم أصوله وجذوره الإيرانية الغائرة هناك، ويدرك أن مرجعيته الروحية المذهبية الشيعية لا تهددها سوى مرجعية سياسية مذهبية شيعية اتخذت من السياسة والدين سلاحاً تخترق به أي مرجعية مهما كانت قوتها. والنتيجة فنجف السيستاني استثمرت زيارة روحاني بطريقتها الخاصة لتبعث هي الأخرى برسائل ذات دلالة إلى جميع الاطراف المعنية في إيران والعراق على حدٍ سواء، وهي رسائل تؤكد وترسخ دور مرجعية النجف في القرار السياسي الشيعي وبوجهٍ خاص في الصراع بين مراكز القوى في طهران. المرشد الأعلى من جانبه يفهم التأثير السلبي على مكانته وعلى قراره وحتى على «قدسيته» من أثر التضخم الكبير الذي طرأ على أدوار ليس دور قاسم سليمان، الذي وإن أبدى ولاءه وخضوعه للمرشد، لكن تضخم القائد العسكري في كل مكان وزمان يهدد فيما يهدد مكانة الزعيم والرئيس المرشد ايضاً. وما بين لعبة التابع والمتبوع في إيران الملالي سيحاول جميع فرقاء الصراع بين الكبار هناك اللعب في الساحة العراقية على طريقة استثمار تجار البازار الإيراني، فمن يأتي بغلةٍ أكبر من العاصمة بغداد إلى إيران التي تعيش الضنك والفاقة سيكون منتصراً وسيدعم «شعبياً» وجوده في المشهد على حساب الآخرين. وهكذا مع تفاقم الحالة الإيرانية الصعبة اقتصادياً وفي صراع الاضداد الإيراني ظهرت بغداد والعراق كجمهورية موز، كما يفكر الايراني الحاكم لطهران ودفع بها من حديقة خلفية الى حديقة أمامية يدخلها فرقاء صراع إيران لصالح لعبتهم وترجيح كفة صراعهم لهذا الفريق أو ذاك. ولعل توقيت زيارة روحاني في العراق تم اختياره بدقة، حيث تعاني ميليشيات العراق التي تتبع قاسم سليمان من أوضاعٍ خانقة بعد إدراجها على القوائم الإرهابية والقوائم السوداء، بما يضعها في خانة المحتاج لكل مركز قوى في طهران وفي قم.
مشاركة :