من المعروف أن الأنظمة الضريبية لعبت دوراً حاسماً في تحويل دول أوروبا من دول زراعية وتعتمد على التجارة الى دول صناعية في أعقاب الثورة الصناعية، التي بدورها لعبت دوراً بارزاً في تمكين الأنظمة الديقوراطية فيها وفي قدرة الأفراد على محاسبة الحكومات على أدائها بسبب شعورهم بالشراكة معها نتيجة الضرائب التي يدفعوها من دخولهم. ومكنتها في الوقت ذاته من تأسيس انظمة اجتماعية اكثر عدالة توفر من خلالها الضمان الصحي واعانات البطالة و حماية الشيخوخة. لكن معظم الدول النامية عجزت عن تقليد الدول المتقدمة في استخدام الأنظمة الضربية فيها لتحقيق الأهداف ذاتها. ولا يشمل القصور عدم القدرة على استخدام المعايير الدولية ذاتها في فرض الضرائب، بل أيضاً في جبايتها، ما جعل هذه الدول تخسر الكثير من مواردها الذاتية سنوياً وتجميعها لأغراض تمويل التنمية، ما جعلها تدور في حلقة مفرغة من عجز الموارد الذاتية وزيادة الإعتماد على الديون وعلى المساعدت الخارجية. وتظهر أرقام المؤسسات الدولية أن إجمالي مساعدات التنمية على مستوى العالم تبلغ 130 مليون دولار سنوياً، يذهب 27 مليون دولار منها لأفريقيا بينما تخسر الأخيرة وحدها 90 مليون دولار سنويا نتيجة الممارسات الضربية الخاطئة. وتتنافس هذه الدول لإعطاء محفزات ضريبية أكبر للإستثمار الأجنبي المباشر، ما يضيف مصدر هدر آخر يضعف من قدرة هذه الدول على توفير التمويل لإغراض التنمية. وتعتبر ظواهر تجنب دفع الضرائب، حيث يسعى المكلفون بالضريبة من افراد وشركات الى تجنب دفع الضرائب أو جزء منها بأساليب شرعية لا يعاقب عليها من خلال الاستفادة من نواقص القانون والتهرب الضريبي، وهي اساليب غير شرعية جرمية يحاسب عليها القانون عندما يسعى الطرف المكلف بدفع الضريبة عمداَ الى تخفيض حجم قاعدته الضربية أو تضخيم النفقات لأغراض تقليص مقدار الضريبة المدفوعة، قديمة قدم استعمال النظام الضريبي في العالم. وقدر معهد الأمم المتحدة لأبحاث التنمية الإقتصادية أن العالم يخسر سنوياً من التجنب الضريبي 500 بليون دولار. وأعد صندوق النقد الدولي دراسة استخدام فيها أسلوبين، الأول حجم الخسائر السنوية للدول من التجنب الضربيي والثاني تحديد نسبة الخسائر التي تتحملها الدول إلى اجمالي الناتج المحلي. وأظهر الأسلوب الأول أن الدول المتقدمة، بسبب حجم وقوة اقتصادها، تأتي في المقدمة حيث احتلت الولايات المتحدة رأس القائمة بخسائر بلغت 188 بليون دولار سنوياً، تلتها الصين بـ66.8 بليون دولار، فيما احتلت المملكة المتحدة اسفل القائمة التي تتألف من 11 دولة بـ1.1 بليون دولار. وعندما استخدمت الدراسة ذاتها الأسلوب الثاني وهو نسبة الخسائر الى الناتج المحلي الإجمالي، احتلت الدول الفقيرة ومتوسطة المراتب العشرة الأولى، حيث جاءت غُيانا في أميركا الجنوبية في المرتبة الأولى بنسبة 6.97 في المئة، واحتلت ناميبيا في أفريقيا المرتبة العاشرة بـ3.95 في المئة. وتتفاقم مشكلة تجنب دفع الضرائب في الدول المتقدمة منذ العام 1980، خصوصاً بعد انتشار ظاهرة العولمة التي عززت فرص التحايل على دفع الضرائب وفي الوقت ذاته قلصت القدرة على تثبيت ذلك على المرتكب. وبدأت منظمة "أو أف سي دي" منذ العام 2013 مع أكثر من 100 دولة معالجة موضوع تآكل القاعدة الضريبية وتحويل الأرباح. وتتكون خطة العمل من 15 نقطة اجرائية تهدف الى غلق الفجوات في الأنظمة الضربية على مستوى العالم والتي تسمح حالياً للشركات العابرة للحدود من تحويل أرباحها الى الأماكن التي لا توجد فيها ضريبة على الدخول أو ضريبة منخفضة والتي تسمى عادة بالملاذات الضربية. وترى المنظمة أن مشروعها يحمل أهمية خاصة للدول النامية التي هي في العادة اكثر تأثر من الدول المتقدمة بفقدان عوائدها الضربية بسبب ضعف اوضاعها الإقتصادية. وتحاول "أو إي سي دي" أن تخرط الدول النامية بأجندة الضريبة العالمية لتتأكد من مساعدتهم في احتياجاتهم، كما أن الموضوع كان على جدول اعمال الإجتماع السنوي لملتقى الإقتصاد العالمي في دافوس عام 2017 وكان عنوان الجلسة الخاصة به "فرض الضرائب بلا حدود مساهمة عادلة من الشركات العابرة للحدود " لغرض ايجاد حلول للمشكلة بعد تسريب "اوراق بنما" التي أظهرت مدى استعمال الشركات عابرة الحدود للملاذات الضربية لتقليص مدفوعاتها من الضرائب للدول المضيفة للإستثمار الأجنبي. ومهما بلغت خسارة الدول المتقدمة من التجنب والتهرب الضريبي فإن المشكلة أكبر بكثير في الدول النامية التي تعاني أنظمتها الضريبية من مشاكل عديدة، منها الإفتقار الى استخدام المعاير الدولية وضعف مستويات التطبيق بسبب الإفتقار الى القدرة على ادارة الضرائب والإفتقار الى حسن ادارة السياسة الضريبية وأخيراً ضيق القاعدة الضربية بسبب كبر القطاع غير الرسمي في الإقتصادات النامية. لذلك، تعتمد اغلب الدول النامية على تجميع الضرائب غير المباشرة مثل القيمة المضافة والضرائب الجمركية لسهولة تحصيلها. وتبلغ نسبة الضرائب المباشرة الى مجموع الضرائب في هذه الدول النامية الثلثين. كاتبة متخخصة في الشؤون الاقتصادية.
مشاركة :