بالتأكيد، وهذا أمر لا نقاش فيه، أن اشتداد عاصفة الاحتجاج في الجزائر، بعد نقل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى جنيف للعلاج في أحد المستشفيات السويسرية، لم يكن عفوياً من حيث القيادة والتوجيه والترتيب، فهناك جهات متعددة - من بينها التيار الإسلامي الذي تقوده منذ عام 1992 «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» الـ(Fis) - لا شك في أنها استغلت الانتفاضة الشبابية العفوية، وبدأت في تصعيد متواصل، حتى بعد القرارات التي اتخذها الرئيس الجزائري، وهي سبعة قرارات، من بينها تأجيل الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في 18 أبريل (نيسان) المقبل، وعدم ترشحه لعهدة خامسة، ومرحلة انتقالية تقودها حكومة كفاءات، وندوة وطنية ومستقلة تعد لإصلاحات تشكل الأساس لنظام جديد. ويقيناً أن هذه «الانعطافة» التاريخية التي بادر إليها بوتفليقة لم تكن مناورة، ولا لعبة سياسية تنفيسية، ولا مجرد عملية «تلميع» للمجموعة الحاكمة، فهو قد أكد قبل كل شيء أنه لم يكن عازماً على ترشيح نفسه «مطلقاً» للانتخابات الرئاسية الجديدة، وأن عاملي المرض والتقدم في العمر يحولان دون ذلك، وهذا ما شكل قناعة مؤكدة للرأي العام الجزائري غير الخاضع للمناورات والألاعيب الحزبية، وبخاصة ألاعيب المجموعات التي تقودها «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، الـ(Fis) التي يقال إنها عادت للعمل غير المسلح في عام 2015، بقيادة عباسي مدني من الخارج، وبقيادة (المتشدد) علي بلحاج، الذي هناك معلومات غير مؤكدة تتحدث عن علاقات له بما يسمى «الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام» (داعش). بعد كل هذا التطور الإيجابي، وبعد إعلان عبد العزيز بوتفليقة بيانه الآنف الذكر، الذي تبعته مباشرة إجراءات عملية، تمثلت بإقالة الحكومة السابقة، وتكليف وزير الداخلية بتشكيل حكومة كفاءات جديدة، وتحديد فترة انتقالية لمدة نحو عام، وتشكيل «ندوة» على رأسها السياسي المخضرم المبدع الأخضر الإبراهيمي، لإعداد دستور جديد، تجري وفقاً له انتخابات رئاسية وتشريعية وبرلمانية جديدة، كان المتوقع أن تتحول المظاهرات الشبابية إلى مظاهرات احتفالية وتأييدية، وألا يكون هناك تحريض منظم على الاستمرار في التظاهر والتجمعات، ولا تشكيك في هذه الخطوة التي من المنتظر أن تنقل هذا البلد العظيم من شرعية الثورة إلى شرعية دولة المؤسسات والأحزاب السياسية الاجتماعية البرامجية غير العقائدية. لقد كان متوقعاً ألا يلائم هذا التحول الاستراتيجي المهم الذي أعلنه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بعد أقل من أربع وعشرين ساعة من انتهاء رحلة علاجية، والعودة إلى الجزائر، وهو عازم على إعلان ما أعلنه، بعض ذوي التطلعات غير الموضوعية الذين لم يلتزموا بما كانوا يلتزمون به عندما كانوا أعضاء قياديين في الحزب الحاكم (حزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية)، والذين بادروا إلى المشاغبة على كل هذه المستجدات الواعدة فعلاً، والدعوة إلى الاستمرار في المظاهرات والاحتجاجات، التي كانت قد مضت عليها فترة تعتبر طويلة، ومثلهم مثل التشكيلات «الإسلامية» التي لا شك في أن بعضها يتلقى التعليمات من الخارج، من التنظيم العالمي لـ«الإخوان المسلمين» تحديداً. ولعل ما تجدر الإشارة إليه، هو أنه في بدايات سبعينات القرن الماضي، قد بدأت تظهر في الجزائر مجموعات وجماعات إسلامية كثيرة متعددة، وأنه بداية بعام 1988 قد انتقلت هذه المجموعات إلى العمل العلني، ومن بينها ثلاث مجموعات، هي: جماعة «الإخوان الدوليين» بقيادة الشيخ محفوظ نحناح، وجماعة «الإخوان المحليين» بقيادة عبد الله جاب الله، وجماعة الطلبة (أتباع مالك بن نبي) محمد بو خلجة ومحمد العبد، وهكذا، فقد أعلنت «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» الـ(Fis) عن نفسها في 18 فبراير (شباط) عام 1989، بقيادة عباسي مدني رئيساً، وعلي بلحاج نائباً للرئيس. ثم لعل ما هو معروف، وبخاصة بالنسبة للأشقاء الجزائريين، أنه قد تم تعديل الدستور الجزائري، وتم السماح بالتعددية الحزبية بعد انتفاضة عام 1988 الشعبية، وتم الاعتراف بجبهة الـ«Fis» لاحقاً في عام 1989، بعدما حققت فوزاً ساحقاً بالفعل في انتخابات يناير (كانون الثاني) التشريعية، من هذا العام نفسه المشار إليه آنفاً. ولعل ما أقحم الجزائر فيما سمي «العشرية السوداء» هو أن الرئيس الشاذلي بن جديد قد فاجأ الجزائريين بالاستقالة من موقعه كرئيس للدولة الجزائرية، ليحلَّ محله الرئيس محمد بوضياف، وتم إلغاء الانتخابات التشريعية آنفة الذكر، التي كانت قد أحرزت فيها الـFis»» فوزاً كاسحاً، جعلها تصبح رقماً رئيسياً في المعادلة الحزبية والسياسية، فأعلنت حالة الطوارئ في البلاد، وجرت اعتقالات قيل إنه تم خلالها اعتقال خمسة وعشرين ألفاً في عشرة أيام. وهكذا فقد اتخذت «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» قرار الصعود إلى الجبال، وبادرت إلى تشكيل جناح عسكري هو «الجيش الإسلامي للإنقاذ» الذي - حسب ادعاءات هذه الجبهة - قد ألحق خسارة فادحة بالجيش الوطني الجزائري (الرسمي)، وحيث قيل إن مواجهاته مع الدولة الجزائرية قد أسفرت عن خسائر تم تقديرها بمليارات الدولارات، هذا بالإضافة إلى 200 ألف قتيل من الطرفين. ثم بعد هذه التطورات الآنفة الذكر كلها، فقد تم في عام 1992 حل حزب «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ومنعها من المشاركة في الحياة السياسية الجزائرية، ولا تزال. فكان أن قامت بانقلاب مسلح عام 1992، واضطر عباسي مدني بعد فشله إلى اللجوء إلى دولة خليجية، لم تبخل عليه ولا على «جبهته» بالمساعدات المجزية. والمؤكد أن المملكة العربية السعودية قد وقفت إلى جانب الدولة الجزائرية الشرعية، خلال ما سمي «العشرية السوداء»، وساهمت بدعمها في مواجهاتها لهذه المجموعة التي كانت وربما لا تزال تعتبر مجموعة إرهابية. والمشكلة هنا هي أن بعض المعلومات التي يقال إنها مؤكدة، قد تحدثت ولا تزال تتحدث عن صلة لشيخ الـ«Fis» علي بلحاج بجماعات «داعش» الإرهابية، وبما يسمى «الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام» الذي كان قد أعلن وأكثر من مرة أن الحرب المقبلة و«من دون توقف» ستكون على الجزائر وجيشها، وهذا مؤكد ومعلن، حيث رد علي بلحاج على إصدار علماء سعوديين فتاوى ضد هذه المجموعات «الداعشية» بالتأكيد على أنه سيتم قريباً إعلان قيام «الخلافة الإسلامية»! وحقيقة، إن هذا هو بيت القصيد، وإن الخوف كل الخوف هو أن ترفض «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ومعها بعض المجموعات المتطرفة، وبعض الجماعات الانتهازية، هذا الحل المتقدم جداً الآنف الذكر، الذي أعلنه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وأن تستغل حماسة بعض الشباب الذين بادروا إلى هذه الانتفاضة السلمية النظيفة، لتحولها إلى مواجهات دامية، لتصير الأمور وبالتصعيد المستمر إلى ما كانت عليه «العشرية السوداء» التي بدأت عام 1992. إن هذه مسألة واردة بالفعل وهي غير مستبعدة، ما يعني أنه لا بد من مواجهة الشعب الجزائري بهذا كله، وأنه لا بد من أخذ كل هذا التحريض المتواصل بالجدية. والمثل يقول: «لا يلدغ المؤمن من جحرٍ واحد مرتين». وبالطبع فإن الـ«Fis» ومعها قوى أخرى مقنَّعة بقناع إسلامي زائف، ستواصل التصعيد لتسديد حسابات قديمة مع عبد العزيز بوتفليقة. وغير مستبعد يقيناً أن تلجأ إلى استخدام السلاح، لتغرق البلاد فيما كانت قد أغرقتها فيه عام 1992. ونسأل العلي القدير أن يحفظ الجزائر العظيمة، بلد الشهادة والشهداء.
مشاركة :