استبدال الأوروبيين البيض: الأكذوبة التي يدفع ثمنها المسلمون في الغرب

  • 3/18/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

كان الهجوم على مسجدين في نيوزيلندا هو الحلقة الأحدث في سلسلة هجمات الكراهية التي يتعرض لها المسلمون في الغرب، لكنه كان الأشد عنفا والأكثر دموية بين هذه الهجمات، إذ أسفر عن مقتل 50 فردا على الأقل علاوة على إصابة العشرات بجراح، وبذلك فاق عدد ضحاياه كثيرا آخر هجوم مسلح استهدف المصلين في مسجد في الغرب، وهو الذي تعرض له مسجد المركز الإسلامي في كيبك في كندا في يناير 2017، وأسفر عن مقتل ستة أفراد وإصابة آخرين. حينها وصف رئيس وزراء كندا، جاستن ترودو، الهجوم بأنه عمل إرهابي، وهو نفس الوصف الذي استخدمته رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أرديرن، للحديث عن استهداف المصلين في نيوزيلندا. لعل ما يلفت الأنظار في هذا الحادث البشع الذي استهدف المسلمين في مدينة “كريست تشرش” في نيوزيلندا، بخلاف سقوط عدد كبير من الضحايا، هو أن منفذه، الأسترالي برينتون تارنت، قام ببث عمليات القتل على الهواء مباشرة على موقع فيسبوك عبر كاميرا بثها على رأسه للمرة الأولى في تاريخ هذا النوع من عمليات القتل الجماعي. هذا علاوة على مجموعة من الرسائل التي حرص تارنت على إرسالها أثناء قيامه بهذه المذبحة، من بينها أنه نفذ عمليات القتل على وقع نشيد حماسي كانت تبثه الميليشيات الصربية أثناء هجماتها التي استهدفت المسلمين والكروات في حرب البوسنة، ويتضمن تمجيدا للزعيم الصربي رادوفان كاراديتش المتهم بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية. كما كتب تارنت على أسلحته مجموعة من الكلمات التي تعبر ببساطة عن الأفكار التي يعتنقها، مثل “فيينا 1683″ في إشارة إلى حصار العاصمة النمساوية فيينا من قبل جيوش الدولة العثمانية، وهو الحصار الذي فشل وكان بداية تراجع العثمانيين في أوروبا. كما كتب على سلاح آخر “وقف تقدم الأمويين الأندلسيين في أوروبا”، وعلى سلاح ثالث كتب “أيها اللاجئون: أهلا بكم في الجحيم”. إضافة إلى كل ما سبق، قام تارنت ببث وثيقة من أكثر من 70 صفحة على موقع فيسبوك تعبر عن رؤيته للعالم، وهي الرؤية التي يشاركه فيها من ينتمون إلى جماعات اليمين المتطرف والنازيين الجدد في أوروبا وأستراليا والولايات المتحدة وكندا. وتقوم هذه الرؤية على نظرية “الاستبدال الكبير”، والتي تعتمد على فكرة أن هناك مؤامرة تحاك ضد الأوروبيين البيض، وتهدف إلى التخلص منهم تدريجيا، والسيطرة على الدول التي يشكلون الأغلبية بين سكانها، وذلك من خلال عمليات الهجرة الواسعة من جانب المهاجرين الأفارقة والآسيويين والعرب، هذا علاوة على مصادرة الأراضي التي يمتلكها البيض في أفريقيا، وتراجع نسب المواليد بين السكان البيض مقابل زيادتها بين الأفارقة والآسيويين، وهو ما يعني في النهاية أن يتحول المواطنون البيض إلى أقلية مستضعفة. Thumbnail وبالطبع يؤمن اليمين المتطرف بتفوق العرق الأبيض على باقي الأعراق، وأن تراجع نفوذ وسيطرة العرق الأبيض يعني خراب الدول التي يشكلون فيها الأغلبية. ونظرا لأن أغلبية الأوروبيين البيض ينتمون إلى المسيحية، فيما ينتمي الكثير من المهاجرين إلى الإسلام، تحمل مجموعات اليمين المتطرف عداء خاصا للإسلام وللمسلمين، وترى أنهم الخطر الأكبر على الغرب. ولا يكتفي من يؤمنون بهذه الأفكار بكراهية المهاجرين والتضييق عليهم، بل يحملون قدرا غير قليل من الكراهية للنخب الأوروبية الليبرالية التي يرون أنها تساهم بسياساتها، التي تسعى لإدماج المهاجرين في المجتمعات الأوروبية ومنحهم حقوقا متساوية، في القضاء على المجتمعات الأوروبية، واستبدال الأوروبيين البيض بأعراق أخرى، وهذا أحد أسباب رفضهم للاتحاد الأوروبي. ومن ثم، انتقد تارنت في وثيقته التي بثها على الإنترنت، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لأنها سمحت لأعداد كبيرة من اللاجئين السوريين بالإقامة في ألمانيا، كما وجه سهام النقد إلى صديق خان، عمدة لندن، باعتباره نموذجا لسيطرة المهاجرين غير البيض على مراكز هامة في أوروبا. ولم تأت أفكار تارنت ورؤيته من فراغ، بل تستند إلى بعض الكتابات التي يكثر تداولها بين النازيين الجدد. ومن أشهرها الكتاب الذي نشره الكاتب الفرنسي جون رينو كامس عام 2012 بعنوان “الاستبدال الكبير”، وأوضح أن فكرته بسيطة للغاية، وهي أن يكون لديك مواطنون في بلد ما، ولكن عبر جيل أو اثنين يأتي آخرون ليأخذوا مكانهم، وبذلك يتغير البلد بالكامل، وهذا ما يرى أنه يحدث في أوروبا، ويهدد الهوية والثقافة الأوروبيتين بالكامل، وبالتالي لا بد للتصدي لهذا الاستبدال بكل الطرق. وقبل كامس قام كاتب فرنسي آخر، وهو جون راسبيل، بنشر رواية عام 1973 بعنوان “معسكر القديسيين” تنبأ فيها بانهيار الحضارة الغربية بسبب الهجرة الواسعة من العالم الثالث، وعادت الرواية لتصبح من أكثر الروايات مبيعا عام 2011. كل هذه الأفكار كانت حاضرة في ذهن تارنت، وكانت دافعه لارتكاب مجزرة مسجدي نيوزيلندا، خاصة بعد أن زار عدة دول أوروبية، وضاق ذرعا بوجود المسلمين فيها، وبالتالي قرر، حسب رؤيته المريضة، التصدي لغزو المسلمين للغرب، وذلك بأن يهاجم مجموعة من الأبرياء الذين لم يعتدوا على أحد، ويقتل منهم قدر ما يستطيع، ويربط جريمته بمحاولة التصدي “للغزو” الإسلامي لأوروبا، وذلك مثلما تم التصدي لجيوش المسلمين في فيينا أو التصدي للمسلمين في الأندلس، بل ويدعو من يؤمنون بأفكاره العنصرية إلى أن يواصلوا جهودهم لوقف “غزو” المسلمين. والغريب حقا أن نظرية المؤامرة التي تقوم على فكرة استبدال الأوروبيين البيض عبر هجرة الأفارقة والآسيويين، لا تصمد أمام الحقائق القائمة على الأرض، ولا تستند إلى أي تفكير منطقي، ولا تراعي المصالح الاقتصادية والاجتماعية لأوروبا أو أميركا الشمالية، ولا علاقة لها بتاريخ موجات الهجرة التي شهدتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. Thumbnail ويكفي أن نتذكر أن قادة الدول الأوروبية الكبيرة، مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، فتحوا الأبواب أمام مئات الآلاف من المهاجرين بعد الحرب العالمية الثانية للمشاركة في بناء أوروبا، ولهذا استعانت فرنسا بعمال من مستعمراتها السابقة في شمال وغرب أفريقيا، واستعانت بريطانيا بعمال من مستعمراتها السابقة في أفريقيا وجزر الكاريبي، وتوجهت ألمانيا إلى تركيا للحصول على العمالة اللازمة، وساهم الملايين من المهاجرين في بناء أوروبا لا في هدمها. كما سبق أن ساهم الآلاف من الجنود المسلمين في الدفاع عن الأراضي الفرنسية والبريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية. ومع استمرار النمو الاقتصادي في أوروبا من جانب، وانخفاض أعداد المواليد من جانب آخر، تبدو الهجرة حتمية لتوفير الأيادي العاملة التي يحتاجها النشاط الاقتصادي. ولعل هذا كان أحد الأسباب الرئيسية في قرار ميركل فتح الأبواب أمام اللاجئين السوريين. أما أستراليا وكندا والولايات المتحدة، التي بها موارد طبيعية هائلة فهي في حاجة إلى قوى عاملة للاستفادة منها، فهناك حاجة إلى الملايين من المهاجرين. وتعتمد كندا وأستراليا على نظام تقييم المتقدمين للهجرة بمجموعة من النقاط التي يتم احتسابها على أساس التعليم والخبرة والسن لاختيار أفضلهم. وفي كل الأحوال مازالت نسبة المسلمين إلى أجمالي أعداد السكان محدودة للغاية في أغلب دول أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا. وعلى سبيل المثال لا تزيد نسبة المسلمين في كل من بريطانيا وألمانيا عن خمسة في المئة من أجمالي عدد السكان، وهي أقل من ذلك في الولايات المتحدة. أما فكرة تفوق العرق الأبيض، فقد نسفها تماما التقدم الهائل الذي حققته اليابان والصين وكوريا وسنغافورة وغيرها من القوى الآسيوية. وعلى الرغم من أن نظرية “الاستبدال الكبير” مرفوضة من جانب أغلب الأحزاب الرئيسية في الغرب، إلا أنها تمثل ركنا أساسيا في عقيدة النازيين الجدد والمؤمنين بتفوق العرق الأبيض، والناشطين في جماعات اليمين الشعبوي المتطرف لتقدم مبررا لعنصريتهم وكراهيتهم لمن يخالفهم العرق أو العقيدة، وتضمن لقادتهم الشعبية لدى الطبقات العاملة التي تحمل المهاجرين أوزار متاعبها ومشكلاتها. والجماعات اليمينية العنصرية تعادي المسلمين كما تعادي اليهود والهنود والسيخ وغيرهم، لكن ما يشجعها على عداء المسلمين هو عدم وجود مؤسسات قوية يمكن أن تتصدى لجرائم الكراهية والعنصرية، وتلاحق مرتكبيها قضائيا. وهذا ما أصبح المسلمون في الغرب في أشد الحاجة إليه، وإلا ستظل أكذوبة الاستبدال الكبير، وأوهام تفوق العرق الأبيض تطاردانهم، وسيبقى من المهاجرين الأبرياء من يسقطون لأن اليمين المتطرف لا يراهم إلا غزاة.

مشاركة :