ارتباك المجتمع الدولي لدعم السلام في جنوب السودان

  • 3/18/2019
  • 00:00
  • 15
  • 0
  • 0
news-picture

من الصعوبة الوصول إلى تسويات سياسية في الكثير من الأزمات الإقليمية من دون الحصول على تأييد واضح من المجتمع الدولي، وفي غالبية الدول التي شهدت صراعات معقّدة، كان هذا البعد ظاهرا، ومهما كانت إرادة البيئة المحلية وصلابة الأجواء الإقليمية، فإن دور القوى الكبرى الدولية يظل مؤثرا، ويمثل إشارة على الرغبة في السلام من عدمها. الصراع في جنوب السودان إحدى العلامات التي كشفت تقاعس المجتمع الدولي، وربما تناقضاته السياسية، فهذه الدولة حصلت على الاستقلال عام 2011، عقب مخاض عسير وطويل، لو لم تكن هناك إرادة دولية مواتية لما حصل هذا الإقليم على حق تقرير المصير قبل ذلك بست سنوات، أو حصد دعما مسبقا للوصول إليه، بل وضغطا كثيفا على السودان للسماح بسلخ جزء من أراضيه طوعا. الحماس الذي شهدته ولادة جنوب السودان، والطموحات التي عوّلت عليها بعض القوى الكبرى، انقلب كله إلى فتور بمجرد نشوب حرب أهلية جديدة داخل الإقليم منذ حوالي أربعة أعوام، في حين كان من المفروض أن يشهد تدخلا سريعا لإنقاذه من براثن خلافات سياسية دقيقة، ونزاعات اجتماعية ومسلحة عميقة، بين عدد من قياداته، ضربت هياكله الحديثة في مقتل، وأفشلت تطلعات راهنت على الدولة الوليدة لتكون رمانة ميزان مهمة في منطقة شرق أفريقيا. كل النداءات والمبادرات الخارجية لم تلمس عصب الأزمة، وتركت غالبيتها في عهدة تدخلات من جانب قوى إقليمية، بعضها انخرط في الصراع مباشرة، وتحول إلى رقم في تعقيدات الأزمة بدلا من أن يكون عنصرا لحلها، ومع ذلك لم يتحرك المجتمع الدولي بجدية لردع المشاركين في تمديد عمر الأزمة، أو مساعدة وتسهيل مهام الراغبين في التهدئة. هذه المعطيات عززت استنتاجا قال إن هناك ارتياحا لإطالة أمد الأزمة، فلم تحرك تداعياتها الإنسانية قوى كبرى بصورة كافية، باستثناء مواقف اعتاد العالم عليها، عندما تنشب أزمة بين أطراف داخلية، ويدور معظمها في شق كلمات من نوعية ضبط النفس، ووقف الفوضى، ومنع الانفلات، والحفاظ على حقوق الإنسان، وكلها مفردات باتت عناوين عريضة في الصراعات عندما تتراجع الإرادة السياسية في التوصل إلى حلول حاسمة. المراقب لتطورات الأزمة في جنوب السودان، يصل إلى قناعة مفادها أن ثمة رغبة لدى بعض القوى في تركها على حالها، وجعل مصيرها غامضا، لأن مقومات الهدوء التام لم تتوافر جيدا، ومن يستفيدون من إفرازاته على غير مزاج بعض الجهات المؤثرة، ما يفسر التراخي في دعم مبادرات السلام التي طرحت الفترة الماضية، بينما المنطق كان يفرض البناء عليها ومحاولة توفير المكوّنات اللازمة لدخولها حيّز التنفيذ. عندما اجتهدت بعض دول الجوار وتوصّلت إلى اتفاق سلام في أديس أبابا في سبتمبر من العام الماضي، كان المتوقع أن يحظى بتوفير أجواء مواتية لتطبيقه ومساندته ليصمد أمام العواصف العاتية التي تلاحقه، غير أن المجتمع الدولي ترك الاتفاق ليواجه شبحا قاتما، ولم تقم القوى التي رأت في جنوب السودان دولة واعدة بتحصينه سياسيا واقتصاديا، حتى تكاد الآن تتحول إلى دولة فاشلة. رغبة بعض القوى الدولية التي منحت جهات إقليمية الضوء الأخضر لتسهيل التسوية في جنوب السودان، ليست كافية لتنزيل اتفاق السلام فيها من على الشجرة، وتحتاج إلى إرادة سياسية قوية وردع للأطراف المعرقلة المشكلة أنه منذ استقلال جنوب السودان، تتكالب على هذه الدولة قوى مختلفة، كل واحدة منها تريد أن يكون لها نصيب في ثرواتها النفطية، والاستفادة من موقعها الجغرافي المميز، لأنه يطل على شرق أفريقيا ووسطها وجنوبها، فهو بمثابة المفتاح لمن يريدون السيطرة على جزء معتبر من مقاليد القارة. المثير أن اتفاق أديس أبابا، بين الرئيس سيلفا كير ونائبه الأول السابق رياك مشار، قد يكون من بين ضحايا التوترات الخفية التي ضربت بعض القوى الكبرى، وامتنعت تقريبا عن دعمه وتحويله إلى نقطة ضوء أو مدخلا للتسوية الحقيقية، وأصبح مجالا للتجاذب في التفسيرات، وهو ما يبرر إخفاقه حتى الآن، فكل طرف يسعى إلى تكريس دوره على حساب آخرين، في دولة لم تكن مدرجة ضمن مغانم الاستعمار القديم، وتريد قواه الجديدة جرها إلى منطقة نفوذها، لأنها سوف تكون مؤثرة في معادلات القوة مستقبلا. روسيا التي تبحث عن موطئ قدم في أفريقيا، انتقدت الولايات المتحدة وحلفاءها في مجلس الأمن الدولي لعدم دعم هذا الاتفاق، بعد أن امتنعت موسكو، مساء الجمعة، عن التصويت على قرار قدمته واشنطن يدعو قادة الجنوب إلى إبداء المزيد من الإرادة السياسية لإحلال السلام، وحصل القرار رقم 2459 الذي ينص على تجديد تفويض قوات حفظ السلام في جنوب السودان (يونيميس) لمدة عام، على تأييد 14 من أعضاء مجلس الأمن. موسكو رأت أن القرار لا يدعم اتفاق السلام، ويوجه رسالة خاطئة إلى أطراف النزاع في جوبا، والغريب أن الصين، التي صوتت لصالح القرار، أعربت عن خيبة أمل لعدم إبداء مجلس الأمن الدعم الحازم لاتفاق السلام، الأمر الذي يكشف حجم الخلافات بين القوى الكبرى، وقد يكون من بين ضحاياها جنوب السودان. الاتفاق الذي يُنتظر دعمه دوليا، سوف يواجه اختبارا عمليا في شهر مايو المقبل، عندما تتولى الحكومة الانتقالية مهامها بقيادة سيلفا كير وخمسة نواب له، بينهم رياك مشار، لأنه منوط بها التحضير لانتخابات برلمانية ورئاسية، في وقت لا تزال فيه المسافات متباعدة بين القوى السياسية المحورية، ولم يتم تبديد الهواجس بشأن توزيع الثروة والسلطة، ويرى فيها البعض جوهر الأزمة، كما أن ثمة أطرافا لم تنخرط في الاتفاق، وكلها عوامل تعيق تنفيذه، وربما تجبر الدول الأفريقية التي رعته على نفض يديها منه، وتتم إعادة الكرة مرة أخرى للبحث عن اتفاق سلام جديد. الواضح أنه كلما قطعت الأطراف الإقليمية المهمومة بالاتفاق شوطا إيجابيا، تبدي بعض القوى الكبرى قلقا بدلا من التشجيع على المضيّ قُدما في تطبيقه، وكشفت واشنطن مؤخرا عن قلق بالغ حيال ما وصفته بـ”عدم إبداء الأطراف الجنوبية التزاما سياسيا بالتطبيق الكامل لكل بنود الاتفاق الأساسية”، ولم تمارس ضغطا واضحا على الحركات المعطلة لإجبارها على التطبيق الكامل له، وكأنها تريد أن تستمر فترة المراوحة لأجل آخر، بما يوفر لها فرصة لضبط الأوضاع على الدرجة التي تحقق مصالحها كاملة. منظمة الأمم المتحدة دعت مؤخرا إلى تقديم دعم مالي لتأمين الموارد لجنوب السودان، لكن الولايات المتحدة، وهي أكبر شريك مالي لجوبا، رفضت وطالبت الحكومة بتخصيص جزء من عائداتها من إنتـاج النفط لدعم السلام، وتنصلت من المسؤولية، وتريد اختبار نوايا قوى أخرى، وفي الحصيلة تبدو كمن لا يرى نضجا تاما في الظروف التي تقود إلى تسوية سياسية نهائية تسمح لها بجني ثمار السنوات الماضية. الواقع أن رغبة بعض القوى الدولية التي منحت جهات إقليمية الضوء الأخضر لتسهيل التسوية في جنوب السودان، ليست كافية لتنزيل اتفاق السلام فيها من على الشجرة، وتحتاج إلى إرادة سياسية قوية وردع للأطراف المعرقلة، والخطورة أن الفشل سوف تكون له عواقب وخيمة على المشروعات التنموية التي أصبحت شرق أفريقيا مهيأة لاستقبال المزيد منها.

مشاركة :