قرنان من الزمن، مرّا على ولادة بطرس البستاني، المعلِّم، ذلك اللقب الذي التصق به، كما لو أنه أصبح جزءا من اسمه، فلا يقال بطرس إلا بإضافة المعلّم إليه حتى على كتبه المطبوعة، ذلك أنه موسوعة لغوية عربية كاملة، رغم حياته القصيرة، إنما التي لم يضيّع منها لحظة واحدة، فترك للعربية النفائس، في اللغة والتراجم والتنوير والحث المبكّر على تعليم المرأة. لغوي من عائلة لغة! ولد اللغوي ورائد التنوير، بطرس البستاني عام 1819، في قرية (الدبية) في جبل لبنان، وظهرت علامات نبوغه في اللغة باكراً، حيث تعلّم على يد أبناء من عائلته الذين يشكلون ظاهرة ثقافية كاملة ومستقلة، أطلق عليها في ما بعد مصطلح (البساتنة) ذلك أن العائلة أنجبت مشاهير كثراً برعوا في التصنيف والتأليف العربي، من مثل اللغوي الكبير عبد الله البستاني (1854-1930) وسليمان البستاني الذي ترجم الإلياذة لهوميروس (1856-1925) ووديع البستاني (1888-1954)، وأسماء أخرى كثيرة جعلت مصطلح (البساتنة) إشارة إلى مشتغلين في التصنيف وإلى بارزين في حقول شتى. الأصل البعيد للبساتنة.. قرية سورية ساحلية وأشار موقع (المؤتمر العالمي للبساتنة) الذي عقد أول اجتماع له في بيروت عام 2009، إلى أن أصل العائلة يعود إلى القرن السادس عشر، وأن نواة تلك العائلة جاءت من منطقة (جبلة) التابعة لمحافظة اللاذقية السورية، مشيرا إلى أن حي (البساتين) الجبلاوي، هو المكان الذي جاء منه البساتنة. وهو حي لا يزال على ذات الاسم، في جبلة، إنما ملفوظاً بإسقاط وإبدال حروف، فيقال: "بسيسين" وهو منطقة تقع شرق جبلة، في الطريق إلى قرية (سيانو) التاريخية القديمة والتي تبعد عنها أقل من 2 كيلومتر. تلقى المعلم بطرس مبادئ اللغة العربية على يد أبناء من عائلته أول الأمر، ثم بعد بروزه في هذا الحقل، تم إرساله إلى مدرسة (عين ورقة) التي افتتحت عام 1797 للميلاد، وكانت تسمى (سوربون الشرق) نظراً إلى مكانتها العلمية الرفيعة حتى باتت توصف كأول جامعة في الشرق وكانت تدرّس خمس لغات للطلاب إلى جانب الفلسفة وعلم اللاهوت، وكان من خريجيها أيضاً، أحمد فارس الشدياق، المصنف الشهير ذائع الصيت. "سوربون" الشرق تمكّن المعلّم من مبادئ العربية بعد إمضائه 10 سنوات في (سوربون الشرق) التي تعلّم فيها أيضا، مبادئ اللغة السريانية واللغة الإيطالية واللغة الإنجليزية، فضلا من علوم مختلفة كالمنطق والقانون والفلسفة، وأصبح في ما بعد مدرّساً فيها. برع المعلم من العربية وإليها، فعمل مترجماً في قنصلية أميركا، ولم ينقطع عن تآليفه وتعلّمه، فدرس اللغتين اليونانية والعبرية، وساهم في ذلك الوقت، بإحدى ترجمات التوراة إلى العربية، وكان في الوقت ذاته، منكباً على مصنفه الكبير، المعجم المعروف بـ(محيط المحيط) الذي يعتبر من المعجمات العربية الحديثة الهامة، فأدخل فيه بعض الكلمات التي كانت منسوبة إلى العامية، فضلا من تبويبه الكتاب وترتيبه على حروف الهجاء، مما جعله سهل المتناول، في هذا الجانب. أول موسوعة عربية إرث المعلّم، لم يتوقف عند حد التصنيف الذي وضع فيه أيضا شرحاً لديوان المتنبي، يمتاز بلغة عصرية سلسة أفاد فيها من جميع شرّاح الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وكتابا في الرياضيات يدعى (كشف الحجاب في علم الحساب) وكتابا في اللغة العربية يدعى (كتاب بلوغ الأرب في نحو العرب) ومن جنسه كتاب (مصباح الطالب في بحث المطالب) و(مفتاح المصباح في الصرف والنحو للمبتدئين)، بل كان المعلم، صاحب أول موسوعة عربية لدى تأسيه ما يعرف بـ (دائرة المعارف) عام 1875م. أصدر البستاني ستة مجلدات من موسوعته العربية، وفارق الحياة وهو يعدّ المجلد السابع، عام 1883، ثم أكمل ابنه سليم، بعض أجزاء الموسوعة، ثم تولى آخرون من ذات العائلة إكمال إصدار أجزاء من تلك الموسوعة القيمة. الاحتفال بمئويته الثانية وفي رصيد المعلّم الكثير فهو مؤسس المدرسة الوطنية عام 1863م، وأصدر عدة صحف ومجلات ونشرات، من مثل (نفير سوريا) عام 1860، ومجلة (الجنان) عام 1870، ثم صحيفة أخرى تسمى (الجنة) ثم صحيفة (الجنينة). ويعتبر المعلّم، أحد أهم روّاد النهضة، ومن أوائل الداعين إلى تعليم المرأة الذي اشتهر فيه وأصبح جزءا من سيرته الذاتية الثمينة. ويخطط لبنان الرسمي، للاحتفال بالمئوية الثانية لولادة المعلّم. وذكرت الوكالة الوطنية للإعلام، في لبنان، في خبر لها مطلع العام الجاري، إلى أن جمعية المعلم بطرس البستاني ستقيم احتفالا في الثاني من شهر أيار/مايو القادم، بالذكرى المئوية الثانية لولادة المعلم البستاني، يشارك فيه نخبة من رجال الفكر والأدب واللغة من مختلف أنحاء العالم. وعقدت الهيئة الوطنية اللبنانية لإحياء المئوية الثانية لميلاد بطرس البستاني، اجتماعا تأسيسياً الأسبوع الماضي، لبحث فعاليات الاحتفال، وأوردت بعض وسائل الإعلام أن وزارة الثقافة تعمل على إعداد برنامج يتضمن نشاطات بهذه المناسبة، بمختلف المناطق اللبنانية.
مشاركة :