بطرس البستاني.. رائد من رواد التنوير

  • 4/16/2022
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

أذا كان من الوفاء وعرفان الجميل استذكار رواد نهضتنا الحديثة واستعادة مٱثرهم وإنجازانهم الحضارية التي أرست اللبنات الأولى لحداثتنا المعاصرة، فإن المعلم بطرس البستاني (1819- 1883) أول من يستحق هذا الاستذكار وأكثر من يستحق لقب الريادة بين جميع رواد نهضتنا العربية الحديثة، لما قام به من إنجازات ثقافية وعلمية وحضارية ميزت بطابعها فكر النصف الثاني من القرن التاسع عشر وثقافته، ما جعل المستشرق الروسي ز.ل. ليفين يعتبره بحق «ابا التنوير العربي» والأديب اللبناني مارون عبود يصفه بـ«الفرد الذي قام بأعمال تعجز عنها الجماعات»، وتقول فيه المقتطف: «إذا أمعنا النظر في الأعمال التي أصطنعها هذا الرجل، لفاقت أعماله أعمال ثلاثة رجال فضلاء الناس بعيدي الهمة، ماضي العزيمة، غزير العلم والمعار». هذا ما كتبه كريم الحلو، في «lNDEPENDENT» عربية. كان البستاني رائدا في أكثر من مجال من مجالات الوطنية والمعرفة واللغة والتقدم الاجتماعي. فالبستاني هو الذي أنشأ أول جريدة عربية غير رسمية بين قراء العربية كما جاء في تراجم مشاهير الشرق لجرجي زيدان. ويعتبر الفيلسوف ناصيف نصار هذه الجريدة التي صدرت في العام 1860، تحت عنوان «نفير سورية» أول وثيقة مهمة للفكر القومي في تاريخ الشرق الأدنى الحديث. والبستاني أول من أسس مدرسة وطنية في العام 1863، واول من أصدر مجلة أدبية علمية في العام 1870، هي مجلة «الجنان» وهو بدأ وأنجز الجزء الأكبر من «دائرة المعارف» أول موسوعة عربية أوروبية الطراز، وأصدر قاموس«محيط المحيط» من أجل تسهيل اللغة العربية وتبسيطها، وأعطائها دوراً أساسياً في النهضة والتمدن لأن لا تمدن، في رأيه، من دون لغة تسايره وتواكبه. هذه الإنجازات الرائدة تثوى وراءها نظرة فلسفية متماسكة ورؤية حضارية تنويرية. فقد طرح البستاني الفكر الليبرالي العلماني مخرجاً واقعياً وعصرياً لأزمة المجتمع العربي في مواجهة إشكالية التخلف والفكر الغيبي، والتقهقر الحضاري، وجمع في شخصيته الفذة بين الحماس لمدنية الغرب والاعتزاز باللغة العربية والتراث العربي، ووفق بين العلمانية والأيمان، فشكل نموذجاً ساطعاً لشخصية حضارية عربية متميزة لا تتنكر للتراث فيما هي تندفع في الحداثة، ولا تنغلق وتتقوقع فيما هي تنكب على التراث والأصالة. تجلت ليبرالية البستاني بشكل خاص في عقيدته الوطنية والسياسية، فدعا إلى الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية، ورأى أن المزج بين الأمور الدينية والأمور المدنية ضار بالناس والأديان. فالأديان يجب أن تكون بين العبد وخالقه أما المدنيات فهي بين الإنسان وابن وطنه أو بينه وبين حكومته. من دون هذا الفصل يستحيل «الانتظام في سلك الشعوب المتمدنة» وما دام قومنا لا يميزون بين الأديان والمدنيات، ولا يضعون حداً فاصلاً بين هذين المبدأين، لا يؤمل نجاحهم في أحدهما ولا فيهما جميعا. وإذ هال البستاني ما حل بلبنان من المٱسي والويلات إبان فتنة العام 1860 الطائفية، بادر إلى جريدته الأسبوعية «نفير سورية» التي صدر العدد الأول منها في العام 1860وهي ذات صفحة واحدة تتضمن مقالاً واحداً كتبه البستاني بتوقيع«محب للوطن». وفي هذه الجريدة تجلى فكر البستاني الوطني والسياسي، فرأى أن من واجبات أبناء الوطن حبه. أما اللذين يبدلون حب الوطن بالتعصب المذهبي ويضحون خير بلادهم لٱجل غايات شخصية، فهؤلاء لا يستحقون أن ينسبوا إلى الوطن وهم أعداء له. قال مدافعاً عن الوحدة الوطنية التي صدعتها فتنة العام 1860: «يا أبناء الوطن إنكم تشربون ماء واحداً، وتتنسمون هواءً واحدا، ولغتكم التي تتكلمون بها واحدة، وأرضكم التي تطأونها فهي واحدة، ولابد أنكم ستستفيقون من هذه الغفلة وتدركون صالحكم العمومي». كما يوضح الحلو، مارس البستاني فكره الليبرالي العلماني بأنشاء أول مدرسة وطنية على مبادئ الحرية والاحترام المذهبي المتبادل «أبوابها مفتوحة لجميع أبناء الوطن وغيرهم من كل جنس وطائفة وملة من دون تعرض لمذاهبهم الخصوصية... أهدافها تربية حاسيات محبة الوطن في قلوب تلامذتها». لكن محبة الوطن في ذهن البستاني غير ذات صلة بالاستقلال عن الأتراك والانفصال عن الخلافة، كان يكتب كمواطن عثماني، وسورية التي يتوجه إليها لا تعني أكثر من وحدة إقليمية ضمن الإمبراطورية العثمانية المتعددة القوميات والإثنيات والطوائف، وقد كان الجمع بين الوطنية والعثمنة الطابع الغالب على فكر البستاني ومعاصريه من الليبرالين مثل فرنسيس ألمراش وفارس شدياق وإديب إسحق وفرح أنطون. وإذا كان يعلم أن تخلف العرب إنما سببه الجهل، وإن السبيل الوحيد لنهوضهم هو جعلهم مواطنين في عالم العلم والاختراع الحديث، أكب البستاني على وضع «دائرة المعارف» هي أول أنسكلوبيديا عربية أوروبية الطراز، لتكون في متناول الساعين إلى العلم والمعرفة، ولكي تقوم بسد الاحتياجات العلمية المتعددة، وقد أدت هذه الموسوعة دورا مهما في تاريخ الثقافة العربية. إنطلاقاً من هذه الأفكار والتطلعات أسس بطرس البستاني مع الشاعر اللبناني ناصيف اليازجي في العام 1847 أول جمعية في العالم العربي هي جمعية الٱداب والعلوم، كما يذكر المؤرخ جورج أنطونيوس. وفي هذه الجمعية بالذات ألقى البستاني في العام 1849«خطبة في تعليم النساء» فكان أول متنور عربي حض على تعليم المرأة وإشراكها في النهضة الحديثة. جاء في هذه الخطبة: «المرأة لم تخلق في العالم بمنزلة صنم يعبد أو أداة زينة تحفظ في البيت...إذا من المعلوم الذي لا يشوبه ريب أنه لا يمكن وجود العلم في عامة الرجال من دون وجود في النساء...فالمراة يجب أن تكون» عضوا يليق بجماعة متمدنه«. وعلى الأسس والمبادئ ذاتها أصدر البستاني مجلة» الجنان«في العام 1870 فعكست على صفحاتها ٱراء وأفكار الأنتلجنسيا العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد أدخل من خلالها مفهوم روح العصر التي هي مجموعة القيم والمبادئ التي يجب أن تسترشد بها كل أمة، وروح عصر النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحددها مبادئ الحرية والمساواة والتقدم وسيطرة الحق والنظام والقانون. ولم يكن من المصادفة أن تستقطب «الجنان» التطلعات الجديدة الٱخذة في التبلور، وأن تظهر في سنتها الأولى أول مقالة لأول كاتبة في الصحافة العربية هي المستنيرة السورية مريانا مراش. هكذا تكتمل الملامح المميزة لشخصية نهضوية فذه تستحق الاستذكار والقدير في زمن الأصوليات الظلامية والتعصب الطائفي والهويات القاتلة. ففي دروس البستاني - وغيره من المتنورين- مازال ضروريا لتجازز المأزق الراهن في الفكر والسياسة، وما دعا إليه لا يزال مشروعا للمستقبل، فقد برهن أنه بالإمكان الجمع بين الأصالة والحداثة، وهذا درس يجب أن نتأمل في مغزاه. وأشهر مؤلفاته: دائرة المعارف، ومحيط المحيط، وقطر المحيط، وكشف الحجاب، ومسك الدفاتر، ومفتاح المصباح في الصرف والنحو، وكتب أخرى ورسائل عديدة للتثقيف والتهذيب، فضلاً عن ترجمة الكتب الدينية والأدبية.

مشاركة :