تراقب المصارف الدولية الكبرى خاصة في أوروبا محادثات الاندماج الجارية حاليا بين أكبر مصرفين في ألمانيا دويتشه بنك وكومرتس بنك، ما يؤسس لثالث أكبر مصرف في أوروبا، تقدر أصوله بـ 2.04 تريليون دولار. في الواقع فإن محادثات الاندماج، وما يمكن أن تسفر عنه من نتائج، باتت حاليا حديث الساعة ومحل نقاش وبحث حول الفوائد الاقتصادية التي يمكن أن تعود على النظام المصرفي الألماني والأوروبي منها، كما فتحت الباب على مصراعيه لعودة الجدل من جديد حول جدوى اندماج المصارف، والنتائج الإيجابية والسلبية على الاقتصاد الكلي وعلى مصالح المودعين. بطبيعة الحال محادثات من هذا النوع، تتعلق باندماج أكبر مصرفين في أكبر اقتصاد أوروبي ورابع اقتصاد في العالم، لا يمكن أن تسفر عن نتائج بين ليلة وضحاها، إذ يتوقع أن تتواصل النقاشات لفترة طويلة من الوقت، دون أن تسفر عن نتائج حقيقية ملموسة لأسباب قانونية ونقابية بل وسياسية أيضا. من جهته، يعتقد ميتشيل بروك رئيس قسم المعاملات الدولية في مصرف نيت ويست، أن الدوافع وراء مساعي الاندماج المصرفي الألماني، تكمن في مخاوف الحكومة من الوضع غير الصحي لـ"دويتشه بنك"، وما يمكن أن ينجم عن تفاقم المصاعب التي يمر بها، وتطورها إلى أزمة حقيقية تؤدي إلى انهيارها ومن ثم كارثة فعلية للاقتصاد الألماني. ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن "دويتشه بنك" يصارع من أجل تحقيق أرباح مستدامة منذ الأزمة المالية عام 2008، ومن جانب آخر تمتلك الحكومة الألمانية حصة تقدر بـ15 في المائة في "كومرتس بنك" بعد قيامها بإنقاذه من الإفلاس عام 2008، ومن ثم فالحكومة الألمانية تريد دمج المصرفين وهما الأكبر في ألمانيا بهدف دعم الاقتصاد الألماني الذي يعتمد على التصدير إلى الخارج، خاصة السيارات والآلات، كما أن عملية الدمج ستساعد على الحفاظ على إحدى مميزات "كومرتس بنك" بوصفه الممول الرئيس للشركات متوسطة الحجم التي تعد العمود الفقري للاقتصاد الألماني". وإذا نجحت الصفقة فستكون المحصلة إنشاء ثالث أكبر مصرف في أوروبا بعد HSBC وBNP Paribas وستبلغ القيمة الإجمالية لأصول البنك الجديد 2.04 تريليون دولار، بينما القيمة السوقية ستبلغ 25 مليار يورو، وسيهيمن البنك المدمج على خمس سوق التجزئة المصرفية في ألمانيا. كما ستكون معدلات التوظيف في المصرف الجديد كبيرة للغاية، فالمصرفان يوظفان معا 140 ألف موظف في جميع أنحاء العالم، إلا أن عملية الدمج ستؤدي إلى إنهاء أعمال عشرات الآلاف من العاملين، وتحديدا وظائف نحو 30 ألف شخص، وهو ما تسبب في اعتراض النقابات العمالية الألمانية على عملية الاندماج. وأثارت محادثات الاندماج المصرفي في ألمانيا جدلا بشأن هل يقف الاقتصاد الأوروبي والاقتصاد العالمي على أعتاب مرحلة جديدة، تشهد اندماجات مصرفية يمكن أن تعيد تشكيل المؤسسات المصرفية الكبرى في العالم، أم أن ما يُشاهد ظاهرة فريدة مرتبطة برغبات ألمانية فحسب. بدوره، يعتقد الدكتور إيه جاري أستاذ المصارف والنقود في جامعة أكسفورد، أن النظام المصرفي العالمي يراقب عملية الاندماج في ألمانيا بدقة، باعتبارها قفزة إلى المجهول. ويعلق لـ"الاقتصادية" قائلا "يحلو للمختصين الألمان والمسؤولين الحكوميين وصف "دويتشه بنك" كمصرف كبير جدا يصعب أن يصاب بالفشل والإخفاق، لكنهم يتناسون أن هذا الوصف يتضمن أيضا أنه سيكون من الصعب جدا إنقاذه إذا أصيب بهزات مالية كبيرة، فهو أكبر مصرف في ألمانيا، وعشية الأزمة المالية كانت لديه أصول بقيمة 2.95 تريليون دولار، بينما كان الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا لا يزيد على أربعة تريليونات دولار، ومن ثم لم يكن في قدرة ألمانيا إنقاذه بشكل تام، وحتى في ظل أزمته الحالية فإن أصوله تبلغ 1.54 تريليون دولار، أي نصف الناتج المحلي الاجمالي لألمانيا تقريبا". ويضيف "نقص الربحية أضعف قدرة مصارف منطقة اليورو بصفة عامة على خفض نسب القروض المتعثرة، ومن ثم بات من الصعب تنمية رأسمال المصارف وتعزيز ميزانيتها، وعملية الاندماج تهدف إلى تجاوز تلك العثرات". ويقول "هذه الظاهرة ليست حكرا على ألمانيا فهي موجودة في عديد من النظم المصرفية الأوروبية، ما يجعل الجميع ينظر إلى تجربة اندماج "دويتشه بنك" مع "كومرتس بنك" على أنها تجربة فريدة من نوعها، إذا نجحت فإننا سنشهد مزيدا من عمليات الاندماج المصرفي في أوروبا والعالم، أما إذا فشلت فإن القطاع المصرفي الأوروبي والعالمي سيحافظ على حالة التجزئة الراهنة". في الواقع فإن كثيرا من المختصين يعتقدون أن القطاع المصرفي المجزأ فيه كثير من المنافسة ما يحقق مصالح العملاء، بينما تتضمن عملية الاندماج مزيدا من الاحتكار، ويقر هؤلاء المختصون بأن مشكلات المصارف الأوروبية ذات الطابع العالمي متعددة، لكن السماح بتكوين مصرف عمومي جديد لا يمثل حلا من وجهة نظرهم. من جانب آخر يطالب بعض الاقتصاديين بالفصل بين الحالة الألمانية وحالة الاندماج المصرفي بصفة عامة. يقول لـ"الاقتصادية" البروفيسور دون هانس أستاذ المالية العامة في جامعة لندن والرئيس السابق للجنة المالية في بنك إنجلترا، "يبدو الجانب الألماني مهووسا بفكرة إنشاء مصرف دولي عملاق يكون قائدا مصرفيا وطنيا، والأهم أن تكون لديه القدرة على الوقوف في وجه المصارف الأمريكية، أو لأن يكون دليلا على هيمنة ألمانيا الاقتصادية أوروبيا، وباختصار فإن عملية الاندماج تدفع الحكومة الألمانية لإتمامها بهدف إيجاد مصرف لا يمكن أن يفشل". ويضيف "في الأزمة المالية فقد "دويتشه بنك" 600 مليار يورو من أصوله، وانخفضت قيمته السوقية بنحو 60 في المائة، في المقابل ربح "كومرتس بنك" 100 مليار جنيه استرليني أو نحو ذلك، لكنه فقد نصف حصته السوقية. ومن ثم عملية اندماج لا تحركها رغبة اقتصادية فحسب، إنما تضغط الرغبة السياسية لإكمالها، فهذا يضعف إلى حد كبير ميكنزمات السوق في أن تقوم بالدور المنوط بها". بالطبع هذا لا يعني على الإطلاق أن كل عملية اندماج بين مصرفين عملية خاطئة، بل أحيانا، وعلى الرغم من بعض الجوانب السلبية لها، فإن المحصلة النهائية تكون إيجابية للاقتصاد الكلي، ومن ثم تجب دراسة كل حالة على حدة مع إبعاد التدخلات السياسية عن عملية الاندماج. في الحقيقية فإن عملية الدمج المصرفي لا تهدف بالضرورة إلى إنقاذ المصارف التي تعاني عبء الديون، بل قد تمهد الطريق إلى خصخصتها مستقبلا، كما أن عملية الاندماج تسهم في زيادة ملموسة في حجم القروض التي يمكن توفيرها في القطاعات ذات الأولوية والقطاعات الصناعية الصغيرة.
مشاركة :