غزة (فلسطين) - بصعوبة بالغة تمرر العجوز الفلسطينية فاطمة اللحام بأصابعها المرتعشة إبرة معدنية صغيرة في نهايتها قشة ذهبية مرنة، بين ثنايا أعواد من سعف النخيل ونبتة الحلفاء متراصة بدقة على شكل دائرة حلزونية. وهي تحاول أن تخرجها من الجانب الآخر لتتناسق مع مثيلاتها في نسيج من القش ليصبح الشكل الأخير طبقا، ولكنه ربما يحتاج إلى ما يزيد عن 35 يوما قبل عرضه في أسواق قطاع غزة. ولا تشعر اللحام بالملل من تكرار العملية السابقة المئات من المرات يوميا، فقد اعتادت منذ 55 عاما على الجلوس ساعات طويلة لنسج أواني القش، وإنتاج السلال وأطباق الطعام والزينة بأحجام مختلفة، طالما أنها مصدر رزق زهيد ووحيد لعائلتها. وتبدأ السيدة رحلتها الطويلة، التي تحتاج إلى صبر، على حد تعبيرها، بجمع سعف النخيل ونبتة الحلفاء من الأراضي الخالية قبل أن تقوم بتجفيفها تحت أشعة الشمس في عملية تستمر لعدة أيام. ولا تترك الأوراق تحت أشعة الشمس دون مراقبة، فتجفيفها لفترة طويلة قد يؤدي إلى تشقّقها أو تكسّرها أثناء الصناعة، وعدم وصولها إلى مرحلة الجفاف القياسية قد يُؤدي إلى تعفّنها. لذلك تنتظر العجوز تحوّل لون الأوراق من الأخضر إلى الذهبي الباهت، قبل أن تضعها في أكياس من البلاستيك أو “الخيش” لتحافظ على ما تبقى من رطوبتها. وفي مرحلة متقدمة تنقع اللحام، التي تقول إنها ربما تكون “آخر من يمارس هذه المهنة اليدوية الشاقة بقطاع غزة”، الأوراق المجففة التي ستستخدمها في ذات اليوم فقط، بالمياه الباردة لمدة 35 دقيقة أو الساخنة لمدة 20 دقيقة، قبل أن تبدأ بحياكتها. أما عملية الحياكة، فلها تكتيك خاص أيضا، إذ تبدأ بصناعة عقدة صغيرة من سعف النخيل تحيطها بأعواد الحلفاء المرنة، لتعود وتنسج حول هذه الأعواد أوراق نخيل ذهبية وأخرى تصبغها باللونين الأحمر والوردي بواسطة إبرة صغيرة. وتحتاج صناعة أواني القش إلى ذهن صاف وتركيز شديد، لأن أي خطأ في دقة تناسق الأعواد قد يكلف اللحام خسارة ساعات طويلة من العمل، فعليها التخلص بشكل كامل من الجزء غير المتناسق وإعادة صناعته من جديد. المهنة مصدر رزق اللحام التي تعتقد أنها تحافظ على جانب من التراث الفلسطيني من خلال مواصلتها صناعة أواني القش وتطلق فاطمة على مهنتها اسم “مهنة طول البال” أي الصبر الطويل، فسلة الخبز أو طبق الطعام يحتاج لما يزيد عن الشهر من العمل لمدة ثلاث إلى أربع ساعات يوميا لإتمامه. وقبل أكثر من 20 عاما، كانت الحرفية تصنع مع والدتها العشرات من أواني القش التراثية، وتعرضها للبيع في أسواق مدينة خان يونس، جنوبي القطاع، وكمية من البضاعة كان يشتريها تجار ويصدرونها للأسواق الأوروبية والخليجية. لكن بعد الاعتماد على الأواني المستوردة والبلاستيكية، تراجع الإقبال على منتجات القش وتحولت إلى مجرد تحف للزينة، لذلك باتت اللحام تصنع منتجاتها بناء على طلب الزبائن فقط. ورغم عدم الإقبال الكبير على هذه الصناعة، إلا أنها تعد مصدر رزق لها ولزوجها الثمانيني، ولا يزيد مجموع دخلها من هذه الصناعة في الشهر الواحد عن 25 دولارا، لأنها لا تتمكن خلال الشهر من صناعة سوى منتج واحد فقط. وإضافة إلى كون هذه المهنة مصدر رزق لها، فإن اللحام تعتقد أنها تحافظ على جانب مهم من التراث الفلسطيني من خلال مواصلتها لصناعة أواني القش، وتتمنى أن تدعمها أي جهة لتنقل خبرتها إلى أجيال جديدة، وتزيد من إنتاجها وتطوره حتى لا تندثر المهنة في المستقبل. ومنذ العشرات من السنين كانت صناعة القش مصدر دخل للنساء في العديد من المناطق الريفية الفلسطينية، إلا أنها تراجعت منذ سنوات بسبب ظهور العديد من الصناعات من الحديد والخشب والبلاستيك، وباتت منتجاتها تباع في المتاجر التراثية.
مشاركة :