بناء اقتصاد احتوائي «1من 2»

  • 3/21/2019
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

بينما تعمل الحكومات على تحويل اهتمامها تدريجيا من المقاييس الأولية القائمة على إجمالي الناتج المحلي، إلى معايير الرفاهية عند الحكم على النجاح الاقتصادي، يزداد الطلب على سياسات تقدمية للعدالة الاجتماعية. لذلك يدرس عديد من صناع السياسات كيف تمكنت آيسلندا، التي تتمتع باقتصاد قوي نسبيا، من جعل المساواة بين الجنسين عنصرا أساسيا في سياساتها الداخلية والخارجية. وطالبت حملة تحقيق المساواة للمرأة في آيسلندا باتخاذ إجراءات حكومية لتحرير المرأة من القوالب الاجتماعية التي قمعتها على مدى قرون. ويشمل ذلك إجراء تعديات تشريعية، إضافة إلى إصدار قوانين قوية معنية بالمساواة وتخصيص حصص للجنسين في مجالس إدارات الشركات. ولكن الأمر استلزم أيضا سياسات تعد، من المنظور الاقتصادي التقليدي، باهظة التكلفة. ولا يزال عامل التكلفة يقف حائلا دون قيام عديد من الحكومات بتطبيق هذه السياسات. والموضوعان الرئيسان في هذا المجال هما الرعاية الشاملة للأطفال، والإجازة الوالدية المشتركة. وإذا تم تطبيق هذه السياسات بشكل صحيح، يمكنها أن تحدث تغييرا في التركيبة وقواعد اللعبة في المجالين العام والخاص. لماذا؟ لأنها تمكن المرأة من المشاركة في سوق العمل وصنع القرارات العامة، مع إتاحة المجال أمام الرجل للمشاركة في المسؤوليات المنزلية. غير أن هذه السياسات الداعمة للأسرة لم تحظ بالتأييد العالمي الذي تستحقه وينظر إليها كثيرون باعتبار أنها ستفتح بابا واسعا أمام الإسراف في الإنفاق العام. لقد مضى 50 عاما منذ أن قال روبرت كينيدي عن حق: إن إجمالي الناتج المحلي يقيس كل شيء ما عدا ما يجعل الحياة جديرة بالاهتمام. غير أن الدراسات الاقتصادية لا تزال منحصرة فيما يمكن قياسه، حيث تقسم الإنفاق الحكومي إلى فئتين: نفقات واستثمار. ويعني هذا التقسيم الثنائي أن الإنفاق على البنية التحتية المادية يصنف كاستثمار، ويستحق بالتالي الأموال العامة. ومن الناحية الأخرى، تصنّف البنية التحتية الاجتماعية كنفقات أو تكاليف تشغيل، ويفضَّل أن تكون أول البنود التي ينبغي تخفيضها. ومع ذلك فإن هذه البنية التحتية الاجتماعية هي التي تحافظ على حياتنا منذ ما قبل الميلاد حتى الموت، وتجد الظروف التي تجعل الحياة جديرة بالاهتمام. ومن المثير للاهتمام أن البنية التحتية المادية -الطرق، والأنفاق، والمباني- تشكل غالبا المجال الرئيس لتوظيف الرجال، بينما يتم توظيف النساء على الأرجح في الخدمات المرتبطة بالبنية التحتية الاجتماعية -التعليم، ورعاية الأطفال، والرعاية الصحية. وبالتركيز على البنية التحتية المادية دون البنية التحتية الاجتماعية، يتجاهل الاقتصاديون وصناع السياسات حقيقة واضحة، وهي أننا بحاجة إلى الاثنتين من أجل ازدهار مجتمعاتنا وتطورها. فما قيمة مبنى المدرسة دون تعليم عالي الجودة للجميع؟ وما قيمة مبنى المستشفى دون من يقدمون الرعاية الصحية؟ وما قيمة الطريق أو النفق في مجتمع تحول فيه الأمية دون حدوث حراك اجتماعي؟ وبهذه النظرة الضيقة للعالم، ليس من المستغرب اعتبار سياسات الرعاية الشاملة للطفل والإجازة الوالدية من الكماليات وليست سمات أساسية للاقتصاد الناجح. ولكنها في الواقع جزء لا يتجزأ من بناء مجتمع يمكن للجميع أن ينجح فيه. وإن كان هناك شيء ينبغي لمن يعيشون في القرن الـ21 أن يعرفوه بصورة أفضل، مقارنة بمن كانوا يعيشون في القرن الماضي، فهو مزايا تحرير الناس من المعايير والقوالب الاجتماعية الموضوعة سلفا. فهناك اختلاف صارخ بين مشاركة المرأة في القوى العاملة في البلدان التي تتوافر فيها رعاية الأطفال بتكلفة ميسرة، والبلدان التي تبَر فيها المرأة على المفاضلة بين الأسرة والعمل. ومتى كانت تكاليف رعاية الأطفال مرتفعة فلا تستطيع الأمهات في الفئات الأقل دخلا تحمل تكاليف العمل. ومن المؤكد أن حدوث تحول ثقافي قد يمكن الأسر من رفض قبول النموذج التقليدي للذكر المعيل. لكن الفجوة في الأجور بين الجنسين ستواصل دفع الرجال إلى العمل مع إبقاء النساء في المنزل. وما دامت مجتمعاتنا تبنى بطريقة يتعين فيها على النساء الحصول على فترات راحة طويلة من العمل لرعاية أسرهن، ستظل هذه الفجوة في الأجور مستمرة كما كانت دائما... يتبع.

مشاركة :