في كتابه "قوة مصر الناعمة"، الصادر مؤخرًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يرصد الكاتب محمود دوير في 145 صفحة من القطع المتوسط مراحل تكوين مقومات وإمكانات القوى الناعمة المصرية والتي تكونت عبر ثلاث عقود في بدايات القرن العشرين والتى كانت محصلة جهد حقيقي لاستعادة الهوية المصرية.ورغم المحاولات الدؤوبة لاستعادة الهوية المصرية؛ إلا أن الفنون والآداب عانت كثيرا من محاولات للهيمنة والتبعية، خاصة الموسيقى التي وقعت أسيرة في البداية للنموذج العثماني، حتى جاء سيد درويش وداوود حسني، حيث يرجع الفضل لسيد درويش في صياغة موسيقى مصرية، وتخليص السلم الموسيقى من الهيمنة العثمانية التي ابتلعته وجعلت موسيقانا وما يقدمه الموسيقيون في مصر إعادة لإنتاج ما يقدم في اسطنبول.لم توجد القوى الناعمة التي تشكلت على أصعدة مختلفة دون نمو متزايد للمشروع الوطني في الإستقلال الذي بدأه أحمد عرابي حيث يؤكد الكاتب صلاح عيسى أن الثورة العرابية من أهم العوامل لتطور الفكر المصري وكان دور عبدالله النديم هاما وهو ما دفع البعض لاعتبار خطيب الثورة العربية أبا للقوى الناعمة المصرية.خاضت مصر ونخبتها معارك سياسية وفكرية للتعبير عن رفضها للتدخل الأجنبي وسطوة الغرب عليهم ومن بينهم مصطفى كامل وأحمد عرابي والشيخ سيد درويش الذي كان فارقا في مسار مصر ومسيرتها الفنية والسياسية لأنه امتلك قدرة على صياغة موسيقى مصرية تسري في شرايين الحركة الوطنية الملتهبة.وعلى الصعيد الآخر ساهم المسرح في تشكيل وجدان مصر فكان رافدا مهما في نهر القوى الناعمة تحول لمنبر رئيسي في تقديم صورة الفن المصري وعكس بدقة مقومات مصر الناعمة فقد أنشئ الخديوي دار الأوبرا المصرية لتعرض عليها لأول مرة" أوبرا عايدة"وشهدت بدايات القرن العشرين تكوين فرق غنائية ودرامية منها "عكاشة" و"يوسف وهبي" و"عبدالرحمن رشدي" و"منيرة المهدية" وواكب تأسيس هذه الفرق ظهور مؤلفين ومترجمين مثل "فرح أنطون" وإبراهيم رمزي ومحمد تيمور ونجيب حداد وأحمد شوقي وعزيز أباظة وأعقبه تأسيس الفرقة القومية للمسرح والمعهد العالي للفنون المسرحية ليظهر بعدها جيل من كتّاب المسرح أعقاب ثورة 1952 وجدوا من خلاله متنفسا وتعبيرا عن طموحهم الفني والفكري.وانعكس اهتمام الزعيم جمال عبدالناصر بالسينما بشكل كبير بصورة جيدة على علاقة الدولة بصناعة السينما وإدراكها وقدرتها على التأثير في الجماهير وكلف وقتها فريد شوقي بصناعة فيلم لتوثيق جرائم العدوان الثلاثي، فاستطاع عبدالناصر أن يحجز مكانه بدوره الطليعي على جدران منازل الشعوب العربية جنبا لجنب مع صور أم كلثوم واسماعيل ياسين وتصدرت صوره كافة الفعاليات والاحتجاجات الشعبية للجماهير التي تبحث عن الحرية والعدل في بلدان العالم المختلفة ولم تأت مكانة مصر العربية من فراغ فقد تكونت عبر عوامل عديدة من أبرزها الموقع الجغرافي والتاريخ وعدد سكانها وعراقة شعبها كما كانت مواقف مصر من قضايا العرب محل تقدير كافة الأطراف خاصة فترة عبدالناصر الذي تبني نهج القومية العربية.وساهم أقباط مصر كمواطنين بدرجة كبيرة في صياغة الوعي والوجدان المصري عبر وسائل فنية وادبية فظلت وحدة الصف التي ميزت المصريين هدفا لكل محتل او متربص بـ"أم الدنيا"، وارتبطت الكنيسة المصرية عبر تاريخها بكل القضايا والهموم الوطنية حتى أنه أُطلق على البابا شنودة لدعمه الدائم لكل القضايا العربية " بابا العرب"، فقد ساهمت الكنيسة في نسج مكونات قوة مصر الناعمة وأنشئ البابا كيرلس الرابع الملقب بـ" أبو الإصلاح" أول مطبعة في مصر وغيرها من المواقف الوطنية للأقباط.
مشاركة :