عن سَـوانِح المكان وأدبية اللغـة(١) 2/2

  • 3/22/2019
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

l (....... ..... إنـَّهُ عَزْفُ الغروبْ...! كيف أمسينا.. ولم تبرح سماءَ الكونِ... ... آهاتُ الشَّفقْ؟! آهِ من دمعِ الغروبْ... هَلَّ شعراً دامياً... يمتاحُ من رُوحي... وفي روحي... يذوب!!! وأنا.. بنتُ الجنوبْ!! أنتَ تدري أيَّ وجْـــدٍ.. تبعثُ الأشعارُ... في أهلِ الجنوبْ! فجأَةً... يتَّقدونْ... حِدَّةً لا ثورةُ الموجِ... ولا الإعصار لا رقص الـمَـطَرْ!! ثورةً محمومةَ الإيقاعِ... لا تعرفُ لوناً للسكونْ نشوةً خَدَّرتِ الغيمَ... احْتَسَاها.... أدْمَنَ الغيمُ الســفرْ! .. أدمنَ الغيمُ الســفر!!)(٢) l .. لا نحتاج لطول إقامة في المَواطن التي ننتمي إليها لتجد تأثيراتُها فينا مساربها العميقة وتُنبىء تجلياتُها عن طبيعة تلك الجذور ميولاً وإمكانات ولغةَ تعبيرٍ من قبل ومن بعد، وتتعاظم فرص ذلك التجلي حين تكون في أماكن الطفولة والصِّبا مشتركات حميمة تتقاطع مع بيئة الجذور؛ تُذكِّر بها وتردنا إليها بشكل أو بآخر؛ فارقتُ مسقط رأسي في محافظة بلقرن بمنطقة عسير وليدةً لم يتجاوز عمرها ثلاثة أشهر، ونظراً لعمل والدي في القطاع العسكري فقد قضيت سنوات طفولتي المبكرة وأسرتي في تنقل مابين عدة مناطق من شرق المملكة إلى غربها إلى أواسط رياضها العامرة إلى شمالها القصي في نهاية المطاف وبداية السعي الحق للسكن والسكينة؛ وكان الملمح المستقر في ذاكرتي بصراً وبصيرة في خضم ذلك الترحُّل عبقَ الريحان والبرك والشار وغيرها من نباتات بهية زكية لم توفر أمي مستَوعَباً ـــ مهما بدا طريف التكوين ـــ إلَّا وزرعتها فيه، صَغُر البيت أم كَبُر!، استقر هذا (المزاج الجنوبي) وطاب قراره في تبوك الحبيبة التي يبلغ إنتاجها من الورود والزهور سنوياً حوالي (19) مليون بأنواع متعددة يتم تصديرها إلى دول الخليج العربي ولبنان وعدد من دول أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وهو ما يمثل ما نسبته 50 % من إنتاج المملكة منها عموماً، وفي «مدينة الورد» الجميلة هذه تجد تشكيلة سكانية متميزة من حيث طبيعة التنوع وذوبان الفوارق الاجتماعية والتجانس المثري لكل من قُدِّر له أن ينشأ فيها ويكبر معها كما هي حـال أختكم قرائي الأحبة، ففيها سكنتُ وساكنت بدءاً من دراستي الابتدائية وحتى حصولي على درجة البكالوريوس، أمَّا دراستي العليا فقد أتممتها في الرياض عن طريق الابتعاث الداخلي، ثُمَّ انتقلتُ إلى الرياض للإقامة الدائمة بها منذ عام 1425هـ؛ ولا شك في أن لنشأتي في تبوك تأثيراً بيناً في صقل موهبتي في الكتابة شعراً ونثراً، فهي منطقة حدودية محاذية للأردن ولبلاد الشام من جهة وتتصل بمصر من جهات ومنافذ أخرى، وكان يصلها بشكل شبه منتظم كثير مما كان يصدر هناك من مطبوعات أدبية وفنية دورية ومن كتب الإبداع القصصية والشعرية والثقافية العامة، التي كانت تجد طريقها إلى بيتنا بيدَيْ شقيقي الأكبر (محسن) القارئ النهم، والشاعر الواعد، الذي لو لم (تستحوذ) عليه «الخطوط السعودية» مجالَ عملٍ وَلكْنَة تَـعامُـل فلربما برز في الوسط الأدبي إلى درجةٍ يبدو معها كل ما كتبتُه رَقْماً على ماء!. l «المنشية»- «المنتزه» - «أم درمان» - «الأشرفية» - هذه أسماء لبعض أحيائها القديمة/ الحديثة، وهي تسـميات تمثِّل انعكاسـاً لثـراء تنوعها السُّـكاني الـذي قاربت فيه حينئذٍ نسبةُ وجود الأسر من جنسيات عربية نسبة الأسر السعودية، بل إنك تجد آثاراً لافتة لذلك في تصاميم المنازل وموجوداتها الخارجية والداخلية أيضاً، كان الطابع «الشامي» تحديداً لافتاً في كثيرٍ منها، نعود ثانيةً إلى الريحان والفل والحبق وتَوَقُّـدٍ من (نرجس) الجنوب.. صَبْـوتِهِ واحتدامه!. : (.... غَيْرُنا في النَّاسِ.. نَاسْ...! غَيرنا... قَسِّمْ له كلَّ المزَايا... والحواسْ ها هنا أُذنانِ.... ذي شَفتَانِ.. هاتيكَ عُيونْ!! وَلنا نحنُ... بنا.. أصلُ الخطايا... والعيوبْ!! ... كلُّ ما فينا قلوبْ!! كلُّ عرقٍ... كلُّ كفٍّ... كلُّ إيماءةِ طرْفٍ تستحيلْ... عندما نـَهوى... قلوبْ ..كلُّ ما فينا قلوبْ! ....كلُّ ما فينا قلوبْ!!). .... ويمتدُّ تَراحُب «تبوك» وتعدديتها ليشمل التواجد الغني للسعوديين فيها من مختلف مناطق المملكة ممن يعمل أكثرهم في المجال العسكري، فتبوك - كما هو معلوم - عُمِّرت حديثاً باعتبارها مدينة عسكرية بحـكم موقعها الحـدودي «بوابةً للشمال»، ولكلا الجانبين: التنوع الإنساني والثراء الثقافي تأثيره الإيجابي في كل صوتٍ واعدٍ يتلمس مساراً لخطوات إبداعه الأولى، وهي نعمة سبقني وقاسمني ولحقني في رحلة التمتع بها كثير من الأسماء في مجالات أدبية وفنية متنوعة، منهم على سبيل التمثيل: عبدالله الصيخان - خديجة العمري - نايف الجهني - هيام حمَّاد - راشد الشمراني - مهدي بن سعيد - قسمة العمراني - مسلّم العطوي - عائشة الحكمي - غرامة العمري - حلوة العطوي - وآخرون وأخريات كُثُر. l وإذا كان لسوانح المراحل زماناً ومكاناً تأثيرها الفاعل في تفتق المواهـب وتنميتها، بما في ذلك طبيعة الميول والتخصص الأكاديمي في مراحل التعليم المختلفة، إلاَّ أن هذا العُمران التراكمي مُهَدَّد بالتهاوي حين يصطدم بمجال عمل منهك يقصي المبدع عن المناخ المعزز والمحفز له على التعبير ومن ثمَّ تجسيد مكنوناته في أية صورة تمثل هويته الفنية الحقة، ولقد كانت ولم تزل هذه المعضلة سبباً في تذاوي وهج نسبة لا يُستهان بها من الأسماء الواعدة بالكثير في بداياتها على المستوى المحلي والعربي عامة ممن استُهلكت طاقاتهم في سبيل السعي لتوفير لقمة العيش لأسرهم في دوامة طاحنة لم تُبقِ ولم تذر، ولعلي ممَّن نجو إلى حَدٍّ ما من الانجراف لهذه الدوامة من خلال استثمـار مجال عملي بشكل تلقـائي بالتأكيـد في إغنـاء تجـربتي في الكتابـة لا النيل منها، فعملي في المجال الأكاديمي الجامعي محاضِرةً في تخصص الأدب والنقد وإدارية أيضاً، بما يعنيه ذلك من تواصل مباشر مع الطالبات على اختلاف اهتماماتهن قد وسَّع من دائرة اطلاعي، وقَرَّب َ إليَّ واقع ما نعايشه كمجتمع عام ومتخصص أيضاً بدرجة ملموسة وثرية في الآن نفسه، ومن ثَمَّ عَزَّز من قدرتي على تَمَثُّل مختلف التجارب وتَصَوُّر مكابدتها ومحاولة عكسها في قصائدي ومقالاتي بما تستحقه من تَمَثُّل ٍ صادق ومسؤول، ولو لم أكن من العاملين في هذا المجال لما استمرت زاويتي هذه منذ عام 1411هـ / 1990م حتى الآن، غير أن للالتزام بمسؤوليات وظيفة ثابتة تبعاته السلبية أيضاً؛ فانشغالي بمهام التدريس ومن بعدها بما يتطلبه انتسابي لمجلس الشورى منذ سبع سنوات قد استأثر بجُلِّ الوقت والطاقة وحال بيني وبين متابعة لملمة وإصدار كل ما نُشر لي من قصائد ومقالات ودراسات نقدية ونشره في إصدارات جامعة، حيث لم يُنشر لي حتى الآن سوى ثلاثة دواوين هي: (احتفال!)، (مطر!)، (عندما غنّى الجنوب!)، وكتاب نقدي واحد هو: (الشعر العراقي في المنفى.. السماوي نموذجاً)؛ في حين ظل تحت المتابعة والطبع عدد من الأبحاث العلمية في مجال تخصصي الأكاديمي، وخمسة دواوين شعرية، وكتاب نقدي آخر، وثلاثة كتب مقالية متنوعة المحتوى تتضمن أبرز ما نُشر من مقالات في زاويتي (إذا قلتُ ما بي!). l هي أولاً وآخراً.. سيرةٌ من جَمْعٍ متناثر، وشتاتٍ يحاول التَّجاسُد.. وإنْ في اللامكان!. (أُقـطِّــعُ قلبي في البــــلادِ وأَنثنـي.. أَنــوحُ على فقْـدٍ.. وأضحـكُ من فقْـدِ! حريقٌ.. كأنّ الشّمسَ تولدُ في دمي ذهــولٌ.. كأنّ الثلـجَ ينبتُ من جِلْــدي وما هَالني أَنْ قيلَ: شطْرانِ قلبُهـا ولا ظنُّهــم أَنِّي على غيـــرِ ما أُبـــديْ فبِي من غريبِ الوجدِ ما يستبدُّ بي.. عن النّاسِ.. كلِّ النّاسِ.. لي مذهبٌ وحدي : جنوبيـــةُ الإقبـــالِ تَنْهَــلُّ جملـةً ولو حـاولتْ صـدّاً فعن طالـبِ الصَّـدِّ! شماليّـةُ السُّكنَى.. مُحـالٌ سكونُها تُحاديكَ ما امتدَّ الطريقُ.. ولا تَهْدِي! إذا أَنجدتْ أَبكَى السَّـراةَ حنينُها.. وإنْ أَتهمتْ - لاريبَ - كانَ الهَوى نَجدي!)٣ ـــــــــــ (١) هذه المقالة بجزأيها تسعى للإجابة عن تساؤلات تكرر ورودها إلي عن صدى الأماكن وإمكاناتها في شعري. (٢) هذا المقطع والذي يليه مجتزءان من قصيدتي (عندما غنى الجنوب!) - الديوان المسمَّى بها - ص٨٢. (٣) أبيات من قصيدتي (مطر) - الديوان المسمى بها - ص ٨٥.

مشاركة :