د.نسيم الخوري ظهر الإنسان الرقمي أو الإنترنتّي عنيفاً في سلوكه وملامحه. تأسّس على الخيال الهوليوودي المشبع بأفلام العنف والجنس. وبدا مستنسخاً في تجمعات عبر عواصم العالم، لكنّه يقوى في تماس الشرق والغرب، والدين بالدين، والمعتقد بالمعتقد. حلّق بعنفه الوحشي نحو قمّة الشهرة المرذولة (مذبحة المسجدين في نيوزيلندا 19 مارس/ آذار 2019) متماهياً بمنتجي الأفلام كأنّه يحمل هويّة حيوانية متحرّكة جاب بها العالم. وعليه. تجد من يتساءل عن الفروق بين إنسانٍ وآخر أوروبيّاً أو آسيوياً أو كنديّاً أو أمريكياً وإلى أي بلدٍ انتمى؟ أطرح هذا السؤال المحشو بالتحدّي لمن يجلدون أوطانهم وثقافاتهم وأنظمتهم وحكّامهم بتهم النقائص الملازمة لأحكامهم في نقد المستقبل البشري المنحدر في الدنيا إلى ما دون مشاهد الحيوانات المحكومة بالغرائز الرحومة في القتل. لا مكان سوى للتوحّش هنا عندما تتوسّع المجتمعات وتفتح لكلٍّ منا أن يمهر الكرة بإنسانه وابتكاراته بما يعمل ويحقّق كفردٍ له دمغته وقارّته وتوقيعه الخاص جدّاً حتّى ولو بلغت أعلى قمم الحقد. ننزل من هذه القمم فنرى أجيالنا الكونية تجوب عواصم العالم بالقمصان التي لا ياقة لها تيمّناً ببساطة مارك زوكربيرج مخترع الفيسبوك. نأخذ الموضة La Mode مثالاً سطحيا صارخاً أبدع فيها أستاذي الفرنسي ريمون بارت كمؤشّر للتمايز لا للتشابه والإلفة والعادة، ونتمتّع برؤية شعوب العالم تتشارك الثقافات وفقاً للزمان والمكان والإمكان. لا أحد خارج العصر، تلك هي خطورة ظاهرة تساوي الصناعيين بالمستهلكين اليوم في حركة الأسواق المنقادة للإعلام، والأحرى للإعلان المشبع بالنزوات والحافر في الغرائز. قد تجد نوعاً من الاستنساخ للمظاهر الثقافية لدى ملوك الفراعنة وأثرياء العالم اليوم.تقتني غرضاً بألف وتجد تقليداً له بخمس دولارات. يظهر أحياناً ما هو بخمس أميز ممّا هو بمليون في حركة البيع والشراء والشعرة. تلهث الصناعة والفنون مهما كانت جذورها عظيمة خلف المال والمستهلكين. الأغنياء مع المستهلكين الكبار فرضوا على المصانع الابتكار أو ما صار يعرف بالصناعات الخاضعة للبشر ولأذواقهم وأمزجتهم وأقيستهم وفرادتهم وأحاديتهم، أو ما يعرف تحقيقاً للخروج من حقول العامّة. تتلاشى مفاهيم الحضارة وتفقد معناها أو هويتها أو الدولة التي كانت تختصرها والتي قضى آرنولد توينبي حياته يبحث عن تعريفٍ نهائي لها ولم يستقرّ على واحدٍ منها. ألا يحقّ لنا القول إنّ هذا المفهوم الساحر صار وهماً ضبابيّاً أراح الشعوب من عقدها؟ هذا سؤال يأخذنا جميعاً الى التفكير المباشر مثلاً في الحضارة الهندية القديمة والهيلينيّة (التسمية التي أفضّلها على الإغريقية) أو الرومانية أو البيزنطية أو الأوروبية؟ أين هي الحضارة الأوروبية أو الأمريكية أو الروسية أو الصينية والهندية؟ وكيف نخلّص البشرية من التشوّهات الهائلة الحاصلة في نسق المعتقدات؟ لا فروقات بين الحضارات إلاّ في ميادين المعالم الثقافية المتجدّدة وأسوقها هنا بمعناها الفرنسي، أي بطرائق المأكل والملبس والنوم وأساليب الحياة الاجتماعية، لا بمعانيها الإنسانية الكبرى.يفرز هذا العصر المخيف، مفاجآت الشهرة المتنوّعة والتواصل بها في مساحات خاصة بك تجعلك سابحاً في عين البشرية وفي نسيج الثقافات والكتابات والصور والفيديوهات العالمية في ظلّ غياب المفاهيم الكبرى التي تنسحب تاركةً مقاعدها العالية وبريقها العريق للثقافات البرّاقة المتنوّعة مهما كانت غريبة أو بعيدة، فهي مرغوبة اليوم من الأذواق ، مثال ثياب الجينز الممزّقة التي كان يرتديها عمّال المناجم. أستنتج بأنّ الفروقات الطبقية تذوب بسرعة هائلة بين المجتمعات اللاهثة وراء التكنولوجيا السهلة الى درجة منح الإنسان المعاصر ملامح ثقافة المجتمع الرقميّ العالمي الذي لم يتبلور مستقبله نهائياً بعد . أطرح هذه الأسئلة من نيوزيلندا للتفكير مجدداً في النظريات والعقائد والأديان التي لعبت وتلعب دورها سلباً و»إيجابا»، وعلى مدى العصور، عبر البشر بهدف التبشير والتبادل والتعارف والتلاقي في أساليب العيش التي تذوب حاليّاً في مشهد عالمي مرصّع بالثقافات الجميلة والمرعبة التي لا عدّ لها والزاهية الألوان والتي تتحوّل، ونحن في مساحاتها، الى معرض لا ينتهي، لكن لكلّ فرد فيه شخصيته وحيوانيته وأمراضه وأحقاده وحضوره وأموره الجاذبة لانتباه الشعوب بما يتجاوز القاتل قايين أو يسخّف بأحلام كريستوف كولمبوس في كشف الجغرافية .
مشاركة :