صدر أخيراً في سراييفو عن «معهد التراث الإسلامي للبشناق» كتاب بعنوان «القيصر والسلطان: سكة حديد برلين بغداد وسكة حديد الحجاز»، وهو يتضمن بحوث ندوة علمية أقيمت في مقر المعهد بسراييفو في 2014. ويمكن القول أن الكتاب يقسم إلى قسمين: قسم معروف للباحثين العرب لكونه اعتمد على مصادر ومراجع انكليزية، وهي التي ترجمت إلى العربية أو أفادت بما كتبه بعض الباحثين العرب عن سكة حديد الحجاز مثل المرحوم السيد محمد الدقن في كتابه «سكة حديد الحجاز الحميدية» (القاهرة 1985) وغيره. أما القسم الآخر فهو غير معروف لكونه يعتمد على مصادر بوسنوية وروسية بشكل رئيسي. ففي هذا الكتاب لدينا بحثان جديران بالترجمة، الأول لصفوت بانجوفيتس بعنوان «سكة حديد الحجاز: نظرة من الزاوية الروسية»، والثاني لحمزة كارتشيتش بعنوان «المسلمون البوسنويون وسكة حديد الحجاز». وفي هذه المناسبة تفيد مراجعة الكتاب في ضوء مقارنة موقف النمسا التي كانت تحتل البوسنة وموقف بريطانيا التي كانت تحتل الهند، وتفاعل المسلمين هنا وهناك مع فكرة سكة حديد الحجاز. ولكن لا بد هنا من توضيح أن النمسا احتلت البوسنة في صيف 1978 بموجب تفويض من مؤتمر برلين 1878 بحجة تحسين أوضاعها، وهو ما لم يتم إلا بعد مقاومة ضارية من المسلمين البوسنيين وممانعة من الدولة العثمانية. وحسب الاتفاقية الموقعة بين استانبول وفيينا في 1883 اعترفت الدولة العثمانية بالواقع القائم مقابل الإبقاء على سيادة شكلية تتمثل في الدعوة للسلطان العثماني في خطبة الجمعة حتى نهاية صيف 1908، عند الانتهاء من مدّ السكة إلى المدينة المنورة، حين قامت فيينا بضم البوسنة إليها. أما فيما يتعلق بالهند فقد كانت تعرضت للاحتلال البريطاني قبيل ذلك (1858) ولكن المسلمين فيها تحركوا لدواع مختلفة مع انتشار فكرة بناء سكة حديد الحجاز وساهموا فيها. وبعبارة أخرى فإن المشترك بين الدولتين هو الحذر من تفاعل مشاعر المسلمين، مع الفارق في أن بريطانيا اعتبرت السكة استفزازا لها من جانب ألمانيا والدولة العثمانية، التي تحالفت مع النمسا لاحقا خلال الحرب العالمية الأولى. وفي ما يتعلق بالمسلمين في البوسنة يمكن النظر إلى موقفهم من ثلاثة جوانب. أما الأول فيتعلق بأن المسلمين في البوسنة كانوا يمثلون أقصى امتداد للإسلام والمسلمين في عمق القارة الأوربية، وبالتالي فإن الحج بالنسبة إليهم كان يعني تجمّع المسلمين في سراييفو والانطلاق في قافلة واحدة بطريق طويل يمر عبر البلقان إلى استانبول ومنها عبر آسيا الصغرى إلى دمشق، حيث يبدأ القسم الأصعب عبر الصحراء إلى مكة المكرمة. ومن هنا فإن مثل هذه الفكرة أو البادرة (سكة حديد الحجاز) كانت تعني الكثير بالنسبة إليهم لكونها تختصر عليهم الكثير من المشاق في هذه الطريق التي كانت تستمر حوالى ستة أشهر في الذهاب الإياب. وأما الجانب الثاني فيتعلق بتفاعل المسلمين مع هذه البادرة كما عبّرت عن ذلك صحافة البوسنة في ذلك الوقت. ففي صحيفة «بهار» Behar ذات الميول الإسلامية نجد أنها خصّصت ركنا دائما في الجريدة بعنوان «سكة حديد الحجاز» تورد فيه آخر المستجدات. وفي هذا السياق استغلت الجريدة هذه المناسبة لتعظيم السلطان عبدالحميد الثاني «الذي سيخلّد اسمه في التاريخ الإسلامي وليس في تاريخ الدولة العثمانية فقط» وذلك ضمن الصراع الخفي على مستقبل البوسنة، حيث بقي المسلمون يعتبرون السلطان عبدالحميد خليفة لهم ويذكرون اسمه في خطب الجمعة (كآخر خيط بقي يربط المسلمين فيها مع الدولة العثمانية) ويحلمون بأن تعود البوسنة ولاية عثمانية. ولكن الكاتب المعروف فهيم سباهو F.Spaho (1877-1942) أوضح في مقالة له نشرت في الجريدة خلال أيلول (سبتمبر) الأبعاد الأخرى لسكة حديد الحجاز، وبالتحديد مدّ سلطة الدولة المركزية على تلك الأرجاء البعيدة التي كانت فيها سلطة الدولة غير مستقرة. أما في ما يتعلق بالجانب الثالث الذي هو موقف فيينا الحليفة لألمانيا (الداعمة الرئيسة للمشروع) فقد كان يتّسم بالحذر لكونها كانت تخشى من تفاعل المسلمين مع سكة حديد الحجاز، التي رأوا فيها رابطة جديدة تعزز صلتهم مع الدولة العثمانية، في الوقت التي كانت فيينا تخطّط فيه لفصل البوسنة عن الدولة العثمانية وضمها بشكل نهائي إلى النمسا، وهو ما تمّ بالضبط بعد وصول وصول القطار الأول إلى المدينة المنورة بستة أسابيع. ومع ذلك فقد كانت الصحف تنشر نقلا عن الصحف التركية ما أثارته هذه البادرة من حماس لدى المسلمين فيا العالم وإقبالهم على التبرع، ولذلك فقد وافقت السلطات النمسوية على طلب أعيان سراييفو للموافقة على تشكيل لجنة لجمع التبرعات في البوسنة، ولكنها حدّدت لها شهرا فقط (شباط/ فبراير- آذار/ مارس 1906 ). ومع انتهاء المهلة نشرت مجلة «بوشنياك» Bosnjal أن مجمل التبرعات وصلت إلى 21665 كرونه وأن 900 من المسلمين البوسنويين حصلوا على ميداليات فضية، حيث أن الدولة العثمانية كانت توزع آنذاك الميداليات الذهبية والفضية والبرونزية على المتبرعين حسب المبالغ التي يتبرعون بها. ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن المسلمين في البوسنة لم ينتظروا موافقة السلطات النمساوية بل أنهم بدأوا في التبرع قبل ذلك. فقد خصّصت جريدة «بوشنياك» منذ 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1905 ركنا دائما لأسماء المتبرعين. وكان مما ساعد المسلمين على التجاوب في التبرع أو المشاركة في هذا الوقف الجديد (كما كان يعتبره البعض) أنه في ذلك الوقت تقدمت امرأة (طاهرة توزليتش) بوقف 500 كرونه من مالها لهذا المشروع الذي كان يعني الكثير للمسلمين في البوسنة خلال ذلك الوقت. وفي الوقت نفسه نشرت الصحافة البوسنوية نقلا عن التركية أن أربع نساء متبرعات من البوسنة حصلن على الميدالية البرونزية. ويلاحظ في الصحافة أن أخبار التبرعات بقيت تنشر حتى بعد انتهاء المهلة المحددة التي سمحت بها السلطات النمساوية. ففي جريدة «بوشنياك» ورد في عدد أيار (مايو) 1906 أن المسلمين في ناحية تيشان Tesanj جمعوا لوحدهم مبلغ 7668 كرونه. ولكن المسلمين في البوسنة بقدر ما تحمسوا لمدّ سكة حديد الحجاز خلال سنوات 1900-1908، التي أعادت الأمل لبعضهم أن يعودوا إلى «دار الإسلام»، إلا أن الفرحة بوصول أول قطار إلى المدينة في 23 آب (أغسطس) والافتتاح الرسمي لسكة حديد الحجاز في 1 سبتمبر 1908 لم تكتمل حيث قامت فيينا بعد شهر فقط (6/10/1908) بالإعلان عن الفصل النهائي لللبوسنة عن الدولة العثمانية وضمها إلى البوسنة. * عضو أكاديمية العلوم والفنون في البوسنة.
مشاركة :