في الرابع والعشرين من شهر مارس من كل عام، تقيم العديد من المنظمات والجهات والمؤسسات الدولية، العاملة في مجال الصحة العامة والصحة الدولية، فعاليات وأنشطة متنوعة، إحياءً لذكرى اليوم العالمي للسل (World Tuberculosis Day)، والذي يتوافق مع تاريخ اكتشاف العالم الألماني «روبرت كوخ» للميكروب المسبب للمرض عام 1882، وهو الاكتشاف الذي مهد الطريق لتحقيق التشخيص السليم، ولتطوير علاج قادر على تحقيق الشفاء. وبعد مرور قرابة المئة وأربعين عاماً على هذا الاكتشاف، لا يزال ميكروب السل يحتل حالياً رأس قائمة أسباب الوفيات من الأمراض المعدية، حيث يلقى 4500 مريض حتفهم يومياً جراء الإصابة بهذا الميكروب، كما يقع 30 ألف مريض فريسة للعدوى بالميكروب المسبب لهذا المرض. لكن هذا الوضع، على فداحته، لا يزال أفضل بكثير مما كان يمكن أن يكون عليه لولا الجهود الدولية الرامية لمكافحة مرض السل، والتي يُعتَقَدُ أنها أنقذت حياة 54 مليون شخص منذ عام 2000 فقط، وذلك من خلال نجاحها في خفض الوفيات بين المصابين بنسبة 42 في المئة. لكن رغم موجة التفاؤل التي سادت المعنيين بجهود مكافحة مرض السل على الصعيد الدولي خلال العقدين الماضيين، انطلاقاً من نجاح استراتيجية مكافحة المرض خلال تلك الفترة، فإن موجة التفاؤل تلك شهدت انحساراً ملحوظاً خلال الآونة الأخيرة، في ظل تزايد المخاوف من فشل جهود التحكم والوقاية، والشعور بالحاجة إلى منهج ورؤية حديثة في التعامل مع السل، نتيجة ارتفاع معدلات الإصابة بأنواع من الميكروب مقاومة لجميع العلاجات المتاحة، مما يجعلها غير قابلة للعلاج تقريباً. وسعياً لاستكمال مسيرة النجاح الذي تحقق منذ بداية القرن الحالي، ولتسريع خطوات الاستجابة لتحقيق الأهداف المرجوة، عقد قادة دول العالم، من رؤساء وملوك، تحت عباءة الجمعية العامة للأمم المتحدة، اجتماعاً في شهر سبتمبر من عام 2018 في مدينة نيويورك الأميركية، لتوفير الجهود الرامية للإسراع بتحقيق هدف القضاء على مرض السل، ولإيصال إجراءات الوقاية والعلاج إلى جميع المرضى في مختلف دول ومناطق العالم. مثل هذا الاجتماع، عالي المستوى، وغير المسبوق، شكّل خطوة هائلة للأمام، لجميع الشركاء المتضافرين في الحرب العالمية المستعرة حالياً ضد ميكروب السل، كما تم اعتباره استكمالاً للمشوار الذي بدأ من خلال الاجتماع الوزاري لوزراء الصحة في العاصمة الروسية موسكو، ونتج عنه التزام من أعلى المستويات السياسية في 120 دولة، بضرورة تسريع الخطوات اللازمة لوقف مرض السل. وأتت تلك الاجتماعات، وما نتج عنها من قرارات والتزامات، ضمن الجهود المتضافرة والهادفة للتركيز على بناء التزام وتعهد دوليين بالقضاء على مرض السل. ليس فقط من الطبقة السياسة المكونة من رؤساء الدول ووزراء الصحة، وإنما أيضاً على مستوى المحافظين، وحكام الولايات والمقاطعات، وعمداء ورؤساء المدن، وأعضاء المجالس النيابية ومجالس الشورى، وقادة المجتمع، ونشطاء مؤسسات المجتمع المدني، والعاملين في القطاع الصحي من الأطباء والممرضات، والمنظمات الصحية غير الحكومية، بالإضافة طبعاً إلى المرضى أنفسهم، وباقي أفراد أسرهم وأصدقائهم الذين تأثروا بهذا المرض بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي الوقت الذي حملت فيه فعاليات ونشاطات اليوم العالمي لمرض السل، العام الماضي، شعارَ «مطلوب قادة لعالم خال من السل»، حملت فعاليات ونشاطات العام الحالي شعار «حان الوقت»، للتركيز عليه وإظهار مدى الحاجة الملحة لتنفيذ الالتزامات التي تعهد بها قادة العالم، والتي تشمل: زيادة التغطية المتوافرة على صعيد إجراءات الوقاية وسبل العلاج لجميع أفراد المجتمع، وبناء نظام فعال للمساءلة والمحاسبة، والتأكد من توافر واستمرارية المصادر المالية اللازمة للدراسات والأبحاث العلمية، والتشجيع على التخلص من التمييز والسمة السلبية التي يوصم بها مرضى السل، وبذل جهود حثيثة نحو توفير خدمات وقائية وعلاجية تتمتع بالمساواة وتستند للحقوق وتضع البشر في مركز اهتمامها. وجدير بالذكر هنا أن ميكروب السل يعتبر من الميكروبات التي لازمت الجنس البشري منذ فجر التاريخ، حيث وجدت آثار المرض في بقايا عظام إنسان الكهف، وفي العمود الفقري لمومياوات الفراعنة. وظل هذا المرض يحصد أرواحاً بشرية بالملايين خلال العقود والقرون وآلاف السنين، وقد بلغ ذروته خلال القرن الثامن عشر في أوروبا، حينما كان السل الذي عرف بـ«الطاعون الأبيض» مسؤولاً عن 25 في المئة من جميع الوفيات بين سكان القارة الأوروبية. وخلال القرنين الماضيين، مع تحسن نظم الصرف الصحي، وارتفاع مستوى النظافة بوجه عام، ومستوى المعيشة ونوعية التغذية، بالإضافة إلى التطور الهائل في مجال التطعيمات الطبية، وغيرها من إجراءات الصحة العامة، تراجع خطر ميكروب السل بشكل كبير، وإن كان هذا الخطر لا يزال يعود بين حين وآخر ليطل برأسه المخيف على جميع أفراد الجنس البشري دون استثناء.
مشاركة :